غزة على طاولة التفاوض.. ولبنان وسوريا في الحديقة الخلفية

صهيب جوهر

منذ اللحظة التي أعلن فيها الرئيس الأميركي دونالد ترامب مبادرته لوقف الحرب على غزة، بدا أنّ الهدف أبعد من مجرد إيقاف القتال. المشروع صُمّم ليكون منصة لإعادة تشكيل مقاربة شاملة للسلام في الشرق الأوسط، في توقيت تداخلت فيه الحسابات الإقليمية والدولية مع الانقسامات الداخلية في الساحات المعنية.

فالقضية الفلسطينية التي مثّلت على مدى عقود الشرارة المركزية للنزاعات، تعود اليوم لتكون المدخل إلى إعادة رسم الخريطة السياسية والأمنية من المتوسط إلى الخليج.

إن أي اتفاق على نزع سلاح حماس في غزة سيُقرأ تلقائياً كمقدمة لنزع سلاحها في المخيمات الفلسطينية داخل لبنان، وهو ما سيفتح الباب أمام استهداف مباشر لسلاح حزب الله الثقيل.

الموافقة المتزامنة من حركة حماس والحكومة الإسرائيلية على المبادرة الأميركية منحت الانطباع بوجود فرصة لتسوية سياسية، غير أنّ الواقع يكشف صورة أكثر تشابكاً. فحماس تدخل المفاوضات مثقلة بخسائر بشرية وميدانية هائلة، لكنها أيضاً محاصرة بسؤال الشرعية أمام جمهورها الذي يطالب بالمقاومة، وأمام معارضيها الذين يتربصون بها. القبول بالمبادرة يتيح لها هامشاً لإعادة تنظيم صفوفها وربما تسجيل مكسب ملموس عبر إطلاق آلاف الأسرى.

إلا أنّ الخطة المقترحة لإدارة غزة، التي أسهم في بلورتها طوني بلير وجاريد كوشنر، تؤسس لبنية جديدة يتربع فيها دبلوماسيون دوليون ورجال أعمال على رأس الهرم فيما تُسند المهام التنفيذية إلى لجنة فلسطينية محدودة الصلاحيات، وهو ما يزيد شعور الحركة بأنها تُجرَّد تدريجياً من قرارها الاستراتيجي.

في المقابل يعيش رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مأزقاً داخلياً حاداً. فقد انهار رهانه على تهجير سكان غزة، وباتت المبادرة الأميركية هي التي تحدد المسار، فيما صورته كزعيم قوي تتعرض للتآكل أمام الرأي العام

الإسرائيلي ووسائل الإعلام التي تصفه بأنه منفذ لقرارات البيت الأبيض. هذا المشهد فتح الباب أمام خصومه في المعارضة لاستثمار اللحظة، بينما يواصل وزراء اليمين المتشدد تمسكهم بخطط الطرد والتوسع، مهددين بالانسحاب من الحكومة وإسقاطها، في حين أعلن يائير لابيد استعداده للانضمام مؤقتاً لتأمين غطاء سياسي إلى حين الانتخابات المقبلة، الأمر الذي يكشف عمق الاضطراب الداخلي ويؤكد أنّ الاتفاق لن يمر من دون أثمان سياسية باهظة.

ويبدو أن لبنان حاضر في خلفية هذه التطورات. لذا فإن أي اتفاق على نزع سلاح حماس في غزة سيُقرأ تلقائياً كمقدمة لنزع سلاحها في المخيمات الفلسطينية داخل لبنان، وهو ما سيفتح الباب أمام استهداف مباشر لسلاح حزب الله الثقيل. اغتيال صالح العاروري في الضاحية الجنوبية مطلع عام 2024 كان بمثابة رسالة واضحة بأنّ الساحة اللبنانية لم تعد مقبولة كملاذ بديل، وأن استضافة قيادات فلسطينية أو إعادة إنتاج دور المخيمات كساحة خلفية أصبح خارج الحسابات. الرسالة حملت معنى مزدوجاً، لا عودة لقيادات حماس إلى لبنان، ولا بقاء للسلاح الفلسطيني خارج سيطرة الدولة. وهو ما يربط مباشرة بين مسار غزة ومستقبل الحزب، إذ يصبح الضغط على سلاحه مساراً طبيعياً مع تفكيك البنية العسكرية لحماس في القطاع والمخيمات.

أما المعادلة السورية بدورها تتقاطع مع هذه التطورات. والرئيس أحمد الشرع الذي نجح في تسويق سردية إخراج النفوذ الإيراني من بلاده وفتح صفحة جديدة في علاقات دمشق العربية والدولية، يتملك سوريا القلق على الجنوب السوري حيث تسعى إسرائيل إلى استغلال هشاشة الواقع الأمني لتأجيج التوتر وتشجيع نزعات انفصالية تمنحها ذريعة للتدخل والتوغل. هذا الاحتمال يثير هواجس القيادة السورية التي ترى أنّ أي فراغ في غزة قد يُستَخدم أداة ضغط على حدودها الجنوبية، ما يجعلها تتابع المفاوضات بدقة باعتبارها جزءاً من معادلة تخص أمنها القومي بقدر ما تخص فلسطين أو لبنان.

لبنان يواجه ضغوطاً على سلاح المخيمات والحزب، سوريا تخشى الانفجار في الجنوب، والرياض تسعى لتثبيت موقعها في قلب الصفقة المقبلة.

البعد الخليجي يكتمل مع التحضير لزيارة مرتقبة لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن في نوفمبر المقبل، في سياق سعي البيت الأبيض لاستثمار أي اختراق في ملف غزة لتمهيد الطريق أمام إدماج السعودية في مسار الاتفاقات الإبراهيمية. هذه الخطوة تمنح ترامب فرصة مزدوجة: تقديم نفسه كمهندس لوقف الحرب ومهّد للتطبيع السعودي–الإسرائيلي، مع تعزيز صورته كصانع سلام عالمي يطمح للفوز بجائزة نوبل.

والخليج بدوره يدرك حساسية اللحظة، والسعودية التي لا تريد الظهور وكأنها تدخل في تسوية تحت ضغط الحرب، لكنها في الوقت نفسه تسعى لتثبيت موقعها كشريك أساسي في أي إعادة ترتيب إقليمي، على قاعدة الحصول على ضمانات أمنية واستثمارات استراتيجية طويلة الأمد من واشنطن.

هكذا تتحول مفاوضات شرم الشيخ إلى أكثر من مجرد لقاء فلسطيني–إسرائيلي. هي محطة تعكس إرادة واشنطن في إعادة توزيع الأدوار في المنطقة، واختبار قدرة الأطراف على القبول بمعادلة جديدة تتجاوز غزة إلى لبنان وسوريا والخليج. كل طرف يراقب مسار المفاوضات من زاويته: حماس تحاول تجنب انهيار كامل، نتنياهو يسعى للتعويض عن خسائره، لبنان يواجه ضغوطاً على سلاح المخيمات والحزب، سوريا تخشى الانفجار في الجنوب، والرياض تسعى لتثبيت موقعها في قلب الصفقة المقبلة. وفي انتظار النتائج، تبقى المنطقة في حالة ترقب مشوب بالقلق، بين احتمال وقف الحرب واحتمال ولادة مرحلة جديدة من إعادة رسم التوازنات على امتداد المشرق العربي

 

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى