
جاء إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يوم 29 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) خطة لإنهاء حرب غزّة، نتيجةً مباشرة للموقف العربي والأوروبي والعالمي في الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي تحدّى الإدارة الأميركية وسياساتها المرتهنة لإسرائيل. ومن تجليات هذا الموقف سلسلة الاعترافات بدولة فلسطين، وتَحوُل خيار فرض عقوبات على إسرائيل إلى أمر وشيك، وانتفاضات الرأي العام العالمي، بما فيه الأميركي الداخلي، إزاء الهمجية الإسرائيلية.
ما جعل حركة حماس ترحّب بالخطة الأميركية، ومن ثم ترحيب العالم بترحيبها، بما في ذلك الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أنّ الخطة تضمّنت، كما جاء في ردّ الحركة “وقف الحرب على قطاع غزّة وتبادل الأسرى ودخول المساعدات فوراً ورفض احتلال القطاع ورفض تهجير شعبنا الفلسطيني منه”، وهذا فعلاً موجود في خطّة ترامب، مع بعض المشكلات والنواقص، أما العملية السياسية، ومواجهة مخطّطات إسرائيل للتطهير العرقي في غزّة والضفة الغربية والقدس، فقد تركت لحلها في سياقات ما بعد وقف الإبادة. وبعيداً عن تحليل أسباب موافقة “حماس”، فإنّ الأسئلة الحقيقية هي كيف يمكن وقف الإبادة فعلاً، ثم كيف يمكن قطع الطريق على المخطّطات الإسرائيلية في “حسم الصراع”؟
العنصر الأول لتحقيق وقف الحرب استمرار الموقف العربي والدولي وتطوّرهما، فقد حاولا، الرئيس ترامب وإدارته، بشدّة منع المبادرة السعودية الفرنسية، المدعومة عربياً ودولياً، ووقف موجات الاعترافات بالدولة الفلسطينية، وفشلت المحاولة. وحاولت إدارة ترامب وتحاول وقف التضامن الشعبي أميركياً وعالمياً، ورغم كل الجبروت والإمكانات، تفشل هذه المحاولات. ولذلك، إدامة زخم التحرّك الرسمي العربي والدولي، بجانب استمرار الزخم في حركة التضامن، عنصران أساسيان لاستمرار مسيرة وقف الحرب. ومن هناك، استمرار الجهد السعودي الفرنسي، مع أدوار مصر وقطر والأردن حاسم في عدم العودة إلى الخلف.
الأسئلة الحقيقية هي كيف يمكن وقف الإبادة فعلاً، ثم كيف يمكن قطع الطريق على المخطّطات الإسرائيلية في “حسم الصراع“
العنصر الثاني، خصوصاً للاستعداد لمرحلة ما بعد الحرب، تطلب استراتيجيات جديدة من القوى الفلسطينية. … وقد قامت استراتيجية القيادة الفلسطينية، الرسمية، على عدة عناصر، أهمّها تجنّب المواجهة مع إسرائيل ميدانياً، ورفض التواصل أو التفاهم مع حركة حماس، والاستجابة للشروط الدولية، خصوصاً العربية والأوروبية والأميركية، مقابل فرصة ووعود غامضة لاستعادة دورها. وفي سياق هذه الاستجابة، جرى تمرير الاستهداف الأميركي، على غرار منع الرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، من الحديث في الأمم المتحدة وزيادة الإجراءات ضد السلطة الفلسطينية في الولايات المتحدة، بأقل ضجّة ممكنة. وإذا كان الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، ثم في الضفة الغربية، أكبر الخاسرين مما يحدُث، ولديهم خسائر وآلام لن تعوّض، فإن الخاسر الأكبر سياسياً هي القيادة الفلسطينية الرسمية، وحركة فتح، التي تبدو خارج المشهد، وخارج التفاوض. وتكفي قراءة خطاب الرئيس الأميركي نفسه، للانتباه إلى أنّ العالم يتعامل مع “حماس” طرفاً أساسياً في العملية الجارية، رغم الطلب منها أن تقبل وتوافق أن تتنحّى جانباً وتخرج من المشهد، وفي المقابل، هناك سلسلة لا تنتهي من المطالب التي تفرض على السلطة الفلسطينية، على أنها شروط لتأهيلها مستقبلاً لاستعادة دورها، ودون تقديم ضمانات لها، ودون موافقة إسرائيلية. ومن ضمن هذه الشروط ما يخل بجوهر تعريف الحركة الوطنية الفلسطينية من خلال طلب تعديل مناهج التعليم، وتحويل الأسرى وأسر الشهداء لحالات اجتماعية للمساعدة. السؤال الذي يواجه “فتح” الآن، ما هي خطتك للمرحلة المقبلة؟ إذا بقيت الاستراتيجية على حالها، فإنّ المسار سيؤدي إلى مزيد من التهميش والاستثناء من القيام بدور في الشأن الفلسطيني.
يوجّه السؤال نفسه إلى حركة حماس: ما هي خطتك للمرحلة المقبلة؟ فصحيح أنّ الرئيس الأميركي التزم بأنّه إذا وافقت الحركة على خطته سيطلب وقف الحرب، ولكن هذا مقدّمة لطرح سؤال خروج الحركة من المشهد، وهي تحتاج مراجعة عميقة لما حدث في “7 أكتوبر” (2023)، وبعد ذلك، لطرح استراتيجية متكاملة جديدة. فكل مقولات “وحدة الجبهات، ووحدة الساحات، والرهان على صعوبة الحرب البرّية والطويلة على إسرائيل”، وسوى ذلك من المقولات تبدّدت في الحرب، ما يفرض تحوّلاً استراتيجياً في الاستراتيجية. صحيح أن البقاء عامين والاستمرار في الوجود طرفاً أساسياً في صنع الحدث أمر تمكّنت منه “حماس”، لكن الثمن الشعبي والسياسي باهظان، والخطة الأميركية التي وافقت عليها “حماس” تفرض تصوّراً جديداً تماماً، قد يصل إلى حد مراجعة “حماس” اسمها، وبناءها التنظيمي، وأدواتها، وتحالفاتها، وسوى ذلك.
كل مقولات “وحدة الجبهات، ووحدة الساحات، والرهان على صعوبة الحرب البرّية والطويلة على إسرائيل”، وسوى ذلك من المقولات تبدّدت في الحرب، ما يفرض تحوّلاً استراتيجياً في الاستراتيجية
قدّم التحرّك السعودي الفرنسي، أو ربما الأدق العربي الأوروبي، إسناداً سياسياً للقيادة الفلسطينية، وخدم الاتجاه لفرض وقف الحرب. لكن الطرف الفلسطيني الرسمي ليس من رسم مشاهد هذا التحرّك أو أثّر فيه، بل جاء التحرّك رد فعل على الخراب والموت الذي تبنته إسرائيل، وعلى عنجهية قيادتها التي تتخيّل قدرتها على رسم الشرق الأوسط والعالم كما تشاء ومن دون دفع أي ثمن.
الرصيد التاريخي القانوني والمؤسسي الفلسطيني، ممثلاً بمنظّمة التحرير الفلسطينية، والسلطة الفلسطينية، ومشروع الدولة الفلسطينية، هو ما يجعل السلطة العنوان والطرف الأساسي للجهد العربي والدولي لمحاولة وقف التدهور، لكن من دون تأييد شعبي، ومن دون الإجابة عن سؤال مواجهة الاحتلال، ومن دون وحدة وطنية، يفقد هذا الرصيد معناه.
أكبر العقبات أمام بروز استراتيجية فلسطينية حقيقية، موحّدة أو على صعيد الفصائل، هي غياب الوحدة الفلسطينية، فخطاب الرئيس الفلسطيني حتى اللحظة انّه يقبل بالشروط الدولية بما فيها استبعاد قوى سياسية من المشهد بحجّة عدم الالتزام ببرنامج منظّمة التحرير، مع أنّ وثيقة الأسرى 2006، واتفاقيات المصالحة، واتفاق بكين 2024، تنزع هذه الذرائع، والرئيس الفلسطيني يطرح للعالم الخارجي خطّة إصلاح تخدم المطالب الدولية التي تريد خفض الصراع، ولا يطرح للداخل خطّة وحدة أو إصلاح فعلي.
أمام فتح سؤال: كيف ستقود وقف المستوطنين وتتصدّى لهم، وتوقف مصادرة الأراضي، وكيف تخرُج السلطة من زاوية الوجود المحدود والأثر المتضائل على الأرض، ومن أزماتها
أمام فتح سؤال الآن: كيف ستقود وقف المستوطنين وتتصدّى لهم، وتوقف مصادرة الأراضي، وكيف تخرُج السلطة من زاوية الوجود المحدود والأثر المتضائل على الأرض، ومن أزماتها، وكيف تستعيد الحركة وجهها ودورها بوصفها حركة تحرر، وأن تطرح إجاباتٍ عن دورها، ولا تكتفي بشتم “حماس” وانتقادها، لأنّ هذا يحولها إلى حركة معارضة، لا إلى حركة قائدة. … وحماس أيضاً، مطالبة بالإجابة عن سؤال ما هي استراتيجيتها للكل الفلسطيني، وأدواتها، واستراتيجياتها، وبُناها الجديدة في المرحلة المقبلة؟
عندما خرجت منظمة التحرير الفلسطينية، من لبنان عامي 1982- 1983، تطوّرت استراتيجية المقاومة الشعبية، وبناء المؤسّسات التي انتجت انتفاضة العام 1987، وهذه الانتفاضة لم تُعِد منظمّة التحرير وحركة فتح إلى الواجهة والقيادة فقط، ولكنها أيضاً أسهمت في حل سلسلة أزمات، مثل تصفية حرب المخيمات في لبنان، وضربت الانشقاق المدعوم سورياً ولبيباً حينها.
يجب إدامة الزخم الدولي والعربي لفرض وقف الحرب، ثم وضع تصور فلسطيني لمجمل الأسئلة الملحّة مثل، كيفية إدارة قطاع غزّة، والدور العربي والدولي، ثم وقف الاستيطان، والمستوطنين، او مواجهتهم، واستئناف العمل في حركات تحرّر واستقلال ضمن استراتيجيات جديدة، وأدوات مناسبة من دون استسلام أو شطط.
المصدر: العربي الجديد