في ضرورة التشاركية السياسية لضمان الوطنية السورية الجامعة

  عبد الله تركماني

شكّل التغيير في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 محاولة لبناء الجمهورية السورية الثالثة، التي يطمح الشعب لأن تكون الحرية والكرامة والتقدم عناوينها الرئيسية، بعد معاناتهم طوال 54 عاماً من الدولة الأمنية لسلطة آل الأسد. ويأمل السوريون أن يعود التوازن بين المجتمع وسلطة المرحلة الانتقالية، بعد أن عانوا من غياب تمثيل مجتمعهم التعددي في ظل النظام التسلطي السابق، واستبشروا خيراً بالتغيير على أمل أن يلاقي النظام الجديد تطلعاتهم إلى تشاركية سياسية حقيقية تضمن لهم مواطنيتهم الحرة والمتساوية خلال مسار الانتقال السياسي، كما حصل في العديد من الدول التي انتقلت من التسلطية إلى الحرية والديمقراطية.

إذ أدمجت تلك الدول كل مكوّناتها في مؤسسات الدولة عبر التشاركية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مما قطع الطريق على بروز هوياتها الفرعية على حساب الهوية الوطنية الجامعة. وكان من المفترض في سوريا أن تكون التشاركية مدخلاً إلى وحدة التنوّع السوري القومي والطائفي والمذهبي، باعتباره غنىً وقيمة مضافة، وذلك من خلال دولة الحق والقانون والمؤسسات التي تكفل العدالة والمساواة وتضمن المبادئ التأسيسية لحقوق الإنسان، خاصة النقد والحوار بين المختلفين.

ولكن مما يؤسف له أنّ ما شهدناه في الساحل والسويداء من تهديد للسلم الأهلي يُفترض أن ينبّه قيادة المرحلة الانتقالية إلى أنّ الخيار الأمني في التعامل مع التنوّع السوري سوف يؤدي إلى الكارثة، بينما الخيار السياسي عبر التشاركية يفتح آفاق التقدم والازدهار لكل مكوّنات الشعب السوري.

إنّ التشاركية السياسية ليست مطلب المكوّنات الأقلوية فقط، وإنما هي مسألة السوريين جميعاً بامتياز، في حين أنّ أغلب التعيينات في مؤسسات الدولة محتكرة من قبل ما سُمّي بـ”الأمانة العامة للشؤون السياسية”، التي أصبحت تتصرف بصفتها حزباً حاكماً وحيداً. ولعلّ ما شهدناه من بروز الهويات الفرعية على حساب الوطنية السورية الجامعة يدفع قيادة المرحلة الانتقالية إلى إعادة النظر في إدارة الدولة كغنيمة يستأثر بها أهل الولاء من “أخوة المنهج السلفي”، في اتجاه التشاركية السياسية والاجتماعية، وتوزيع السلطة على أساس الكفاءة والنزاهة والمواطنة المتساوية.

إنّ النجاح في عملية الانتقال إلى دولة الحق والقانون يقتضي القطيعة مع ثقافة الشعارات التي أنهكت السوريين طوال ستة عقود، والتركيز على التعاطي المجدي مع تحديات الحاضر والتخطيط للمستقبل.

ويتأكد هذا الخيار أكثر فأكثر بعد مجزرة السويداء، التي لم تكن لتحصل لو كانت سوريا الجديدة قائمة على أساس التشاركية الحقيقية. إنّ المخاطر المحدقة بسورية، خاصة بعد انكشافها مؤخراً في السويداء، تتطلب المبادرة من قيادة المرحلة الانتقالية وكل القوى السياسية والاجتماعية والثقافية إلى حوار وطني شامل من أجل تدارك المخاطر وتعزيز فرص التقدم والازدهار، وتحقيق مطالب الحراك الشعبي عام 2011 في الحرية والكرامة.

لقد أظهر غياب التشاركية عن السياسة العامة لقيادة المرحلة الانتقالية وجود ضعف موصوف في مجمل مؤسسات الدولة، إذ طغت الارتجالية في اتخاذ القرارات المصيرية على الصعيدين الداخلي والخارجي. وقد كشفت حصيلة تسعة أشهر أنّ المردود العام متواضع، فالمؤشرات تنذر بتراجع تدريجي للرصيد الإيجابي لقيادة المرحلة الانتقالية، مما يستلزم مراجعة نقدية لمسارٍ يفترض أن يقود سوريا نحو مرحلة استقرار سياسي واقتصادي واجتماعي يتزامن فيه ترسيخ السلم الأهلي مع تحقيق تقدم ملموس في إطار العدالة الانتقالية، في ظل مقاربة مؤسساتية عصرية.

وفي هذا السياق، تواجهنا عدة أسئلة وتحديات: هل ستكون الجمهورية السورية الثالثة دينية أم مدنية؟ وما مدى ضمانها للحريات الفردية والعامة بما فيها حرية المعتقد؟ وكيف يتم تأمين تداول السلطة والفصل بين السلطات الثلاث؟ خاصة بعد أن أدى إغلاق باب قانون الأحزاب إلى تسييس أدوار مشايخ في الفضاء العام كناطقين رسميين باسم السلطة، في حين أننا أحوج ما نكون إلى عدم احتكار العملية السياسية، والبحث عن أوسع توافق بين أغلب التيارات السياسية الفاعلة، على قاعدة الحلول الواقعية للتعاطي مع تحديات المرحلة الانتقالية الصعبة.

إذ بعد أن حوّلت سلطة آل الأسد الدولة من فضاء عام لكل المواطنين إلى فضاء خاص لأهل الولاء للسلطة الأمنية، تكمن أهمية تقديم رؤية سياسية أخرى لسوريا الجديدة تتمحور حول أسئلة السياسة الرئيسية: تأكيد حيادية الدولة عن الأيديولوجيات والأديان والأحزاب، باعتبارها دولة كل مكوّنات المجتمع السوري، والتعاطي مع أسئلة الدولة والمواطنة والحريات العامة والفردية.

إنّ النجاح في عملية الانتقال إلى دولة الحق والقانون يقتضي القطيعة مع ثقافة الشعارات التي أنهكت السوريين طوال ستة عقود، والتركيز على التعاطي المجدي مع تحديات الحاضر والتخطيط للمستقبل، على أساس الحرية والعدالة والمواطنة المتساوية، التي تضمنها التوافقات بين جميع التيارات الفكرية والسياسية العاملة تحت سقف الوطنية السورية الجامعة.

إنّ نجاح عملية التحوّل مرهون بتوفّر التوعية السياسية المكثفة لقطاعات واسعة من الشباب والنساء، وتشكيل كتلة تاريخية واسعة من القوى السياسية العاملة من أجل نجاح هذا الخيار، والاستفادة من الدعم الدولي لما يخدم عملية الانتقال وقطع الطريق على قوى الثورة المضادة.

ويُعدّ هذا الأمر مرهوناً بإعادة تأسيس النظام السياسي، بدءاً من قانون مرن لتشكيل الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، بما يمكّن من إنشاء أحزاب مؤثرة تنال ثقة أغلبية الشعب السوري من خلال برامجها التي تعلنها وتعمل على تجسيدها. وفي سياق ذلك تكمن إعادة بناء الدولة الحديثة، التي عمادها المواطنة المتساوية بعيداً عن أي تمييز ديني أو مذهبي أو قومي، بما يفترض عودة الروح للحياة السياسية التعددية ومنظمات المجتمع المدني، كي يسترد المجتمع السوري حراكه السياسي والمدني السلمي، بما يغيّر قواعد إنتاج آليات عمل السلطة وأشكال ممارستها، على طريق إعادة بناء دولة الجمهورية السورية الثالثة من خلال خطط واقعية ومجدية لإعادة بناء النظام السياسي المستند إلى الحرية والعدالة والمساواة.

من الواضح أنه يترتب على الحكومة بذل جهد أكبر للانفتاح على جميع مكوّنات الشعب السوري، ليس عبر البيانات والخطب، بل ضمن سياسة عملية تتخلى عن سياسة الاستحواذ وعن الحلول الأمنية، بما يفتح الباب أمام حوار وطني حقيقي ينتج عنه تظهير قيادات حقيقية وناضجة من كل المكوّنات.

ولا شك أنّ ضمان هذا التوازن منوط بقدرة ناشطي الشأن العام على حشد أوسع فئات اجتماعية للدفاع السلمي عن مصالحها المباشرة وعن قيم الحرية والعدل والحق في إنشاء أحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني تمثل هذه المصالح طبقاً للشرعة العالمية لحقوق الإنسان، التي تضمن الحريات الفردية والعامة والحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.

إنّ توافقاً بين قيادة المرحلة الانتقالية والتيارات السياسية والمجتمعية قد يسهم في تطوير آليات التغيير المجدية، خاصة إذا تمّ التوافق على تشكيل مجلس للوفاق والإنقاذ يضم ممثلين عن كل المكوّنات الفكرية والسياسية للشعب السوري، بما يساعد على توسيع رقعة الحريات الفردية والعامة وتحريك وعي الجماهير ودفع شرائح واسعة منها إلى الانخراط في خضم العمل السياسي العام.

مما يفرض على قيادة المرحلة الانتقالية الدعوة الشاملة إلى الحوار الوطني المفتوح والمجدي والعملي مع القوى السياسية والمدنية والثقافية الأساسية، مما يرفع من شأنها في عين المجتمع، ويفتح المجال لتجسيد قيم التغيير وحاجاته في الواقع.

ومن الواضح أنه يترتب على الحكومة بذل جهد أكبر للانفتاح على جميع مكوّنات الشعب السوري، ليس عبر البيانات والخطب، بل ضمن سياسة عملية تتخلى عن سياسة الاستحواذ وعن الحلول الأمنية، بما يفتح الباب أمام حوار وطني حقيقي ينتج عنه تظهير قيادات حقيقية وناضجة من كل المكوّنات، لا تقتصر على القيادات التقليدية من مشايخ وزعماء عشائر وطوائف، بل تشمل الشباب والمثقفين وقوى المجتمع المدني، بما يقود إلى بناء عقد اجتماعي جديد بين السوريين، يعزّز هوية وطنية جامعة توفر حصانة داخلية حقيقية وتقطع الطريق على التدخّلات الخارجية، وفي مقدمتها الإسرائيلية.

فهل نستجيب للمخاطر الكبرى، خاصة التفرد في السلطة، وهيمنة الديني على السياسي، وسيطرة قادة أجانب على مفاصل أساسية في مواقع الجيش والأمن؟ بحيث نقتنع أنّ الدولة فضاء عمومي لكل المواطنين يحكمه القانون المتوافق عليه، مما يفترض تقديم أهل الكفاءة والوطنية والمصداقية على أهل الولاء.

 

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى