
وفقًا للمتاح من معلومات عن خطة الرئيس الأميركي، الصهيوني أكثر من الإسرائيليين، فإن المطلوب خروج رجال المقاومة كلهم، ليس من غزّة فقط، بل من الحياة كلّها، إذ يتضمّن أحد البنود السماح للمقاومين الذين يكفرون بالمقاومة ويعتذرون عن الكفاح بالخروج أحياءً من غزّة إلى الدول المجاورة، شريطة أن يعتذروا عما فعلوا وأن يتعهّدوا بعدم تكرار “خطيئة” مقاومة الاحتلال. تتضمّن البنود أيضاً تدمير كل الأسلحة الهجومية في غزّة، التي من شأنها إثارة قلق إسرائيل، الأمر الذي يجعل ملخّص الخطّة أن تبقى غزّة من دون رجال يؤمنون بالحقّ في المقاومة، ويحلمون بتحرير الأرض المحتلة ويحملون السلاح.
بوضوح أكثر، تنطلق الخطّة من نقطة أساس هي أن إسرائيل ليست احتلالاً، ومن ثمّ فإن كل فعل مقاوم لها أو رافض لاستباحتها أيّ مكان في الأراضي الفلسطينية في أيّ وقت تختاره هو عمل إرهابي يستوجب أشدّ العقاب، فضلاً عن أن جوهر الموضوع في غزّة هو أن هناك حفنة من الأسرى الصهاينة لدي المقاومة لا بدّ من استعادتهم أحياء أو أمواتاً، بحيث صارت هذه المسألة هي المعيار الأخلاقي أو السياسي لأيّ جهد دبلوماسي لوقف الحرب، من دون التفات إلى أكثر من 66 ألف شهيد فلسطيني حتى الآن، يذكرون هكذا رقماً واحداً، كأنهم ماتوا في زلزال أو حريق، ولا يوجد قاتل لهم يستحقّ أن يعاقب.
في الخطّة كلام عن إعادة الإعمار من دون تحديد من الذي سيتحمّل كلفة التعمير، ولا إشارة إلى من ارتكب جريمة التدمير، وبالتالي فالكيان الصهيوني معفي من الاتهام بارتكاب الجريمة، وبالضرورة لن يكون مطالباً بتعويض ضحاياها، فالمسألة كلّها تبدأ وتنتهي من تعليق الاتهام برقبة المقاومة وتوقيع العقوبات عليها. فالقضية المركزية عند الإدارة الأميركية هى أسرى الاحتلال الذين يسمّيهم ترامب، ويردّد خلفه العاملين في خدمة خطّته بـ”الرهائن”، الذين صاروا قضية الخطّة المركزية، وكل ما عداها مسائل هامشية، وعلى ذلك يمكن بغير كثير من الجهد أن العرب (كالعادة) سيدفعون ثمن إعادة الإعمار، أي مكافأة الاحتلال على جريمته الممتدّة لعامَين كاملَين.
يجري ذلك كلّه في توقيت استثنائي تجد فيه الكيان الصهيوني منبوذاً ومؤثماً أمام العالم كلّه، حتى من الذين تعهّدوه بالرعاية والدعم منذ أنشأوه في أرض فلسطين. ومن ثمّ، فإن الخطّة، التي هي محض كلام ووعود حتى الآن، لا تعدو طوق نجاة أو ممرّاً دبلوماسياً آمناً لإخراج الاحتلال من مأزق غير مسبوق في تاريخه، باستخدام تقنيات الإخراج الهوليوودي المبهرة، من نوعية أن الرئيس الأميركي شدّد على شريكه الصهيوني بأنه لن يقبل بضمّ الضفة الغربية للاحتلال. وكما هي طوق إنقاذ للاحتلال، هي كذلك مخرج آمن للإدارة الأميركية التي وجدت نفسها هي الأخرى في تناقض هائل مع السياسة العالمية، إذا بدا دونالد ترامب وهو يثرثر أمام الأمم المتحدة في قلب نيويورك وكأنه يسير عكس اتجاه العالم، فلم لا ينتهز الفرصةَ ويجمع قادة دول عربية وإسلامية ويتحدّث فيهم بوصفه صانع سلام، يحمل الخير والنماء للشرق الأوسط؟
بالتزامن مع لعبة ترامب الجديدة، كان هناك أحرار من العالم يقرأون الحكاية على الوجه الصحيح: احتلال وشعب يقاوم هذا الاحتلال، الأمر الذي تترتّب عليه مقاربات ومعالجات أخرى أكثر صدقاً وأخلاقيةً وتحرّياً للعدل، كما فعل رئيس كولومبيا الذي تحدّث بقلب عربي مبين عن حتمية تصدّي العالم الحرّ لإجرام الاحتلال الصهيوني، حتى لو استدعى الأمر تشكيل جيش عالمي يستقطب متطوّعين من كل مكان لتحرير فلسطين من مغتصبيها. مقاربة تبدو صادمة، بل مجنونة بنظر أولئك الحكماء الذين يرون دونالد ترامب عين العقل، ورجل الحلّ والعقد، الذي لا تردّ له خطّة أو فكرة أو صفقة.
الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو، وهو يتحدّث بهذا الأسى عن المأساة الفلسطينية، لم يكن يمارس نوعاً من الادّعاء أو انتحال مواقف المناضلين العظام في النصف الثاني من القرن الماضي، بل كان يذكّر العرب والعالم بأصل الحكاية، ويتسق مع ذاته ومبادئه منذ أن قرّرت كولومبيا قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل بعد العدوان على غزّة، وهي خطوة لم يقدم عليها أحد من عرب التطبيع، ذلك أن كولومبيا آمنت بأخّوتها لفلسطين حين تخلّى عنها العرب، أو كما قلتُ وقتها: “ارتدت كولومبيا ثوب النخوة والمروءة والشرف العربي القديم حين خلعه العرب”. لم تفعل ذلك ادعاءً أو انتحالاً لدور أو مكايدة لواشنطن وتل أبيب، بل فعلت ذلك إيماناً بعدالة قضية شعب فلسطين، وإدراكاً لجوهر الصراع، وإلماماً بالتاريخ الحقيقي، لا المزيّف.
المصدر: العربي الجديد