
قدّم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قبل أيام، خطّة سلام جديدة بشأن قطاع غزّة للقادة العرب والمسلمين، على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وبعد ما يقرب من عامَين من الحرب المدمّرة والقاتلة التي حوّلت القطاع أنقاضاً. تهدف الخطة إلى إنهاء الحرب الحالية وإعادة بناء القطاع المدمّر، وتشمل وقفَ إطلاق نار دائماً، وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين، وانسحاباً إسرائيلياً، وتدفّقاً لمساعدات إنسانية. رحّب القادة العرب والمسلمون بهذا الاقتراح، داعين إلى إنهاء العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزّة. كما تتضمّن الخطّة دوراً للسلطة الفلسطينية، وإنشاء قوة أمنية تجمع بين الفلسطينيين وجنود من دول عربية وإسلامية، وتمويل دول المنطقة لدعم إعادة الإعمار والإدارة الجديدة في غزّة. وصرّح الممثل الخاص للرئيس ترامب، ستيف ويتكوف، أن الرئيس قدّم خطّةً مكوّنةً من 21 نقطة للسلام في الشرق الأوسط وغزّة في الاجتماع المذكور. يحمل “السلام في الشرق الأوسط” مروحةً من الإجراءات التي تعيد ترتيب المنطقة وفقاً لهوى أميركا وإسرائيل، من الطبيعي أن يُخمّن المتابع أن ما يحدث في هذه المنطقة كلّه مرتبط بهذا الهوى، وبهذا التطلّع.
كيف نصدّق أن ترامب، الطامع في تهجير سكّان غزّة وتحويلها “ريفييرا”، يريد السلام وضمان حقوق الفلسطينيين؟
ليس “السلام في الشرق الأوسط” ما ترمي إليه المقالة، إنما فكرة السلام بشكل عام، التي تبجّح بها ترامب منذ ولايته الأولى، وفي أثناء حملته للولاية الثانية، وأعاد تسليط الأضواء المبهرة عليها منذ أيام، عندما قال من منصّة الأمم المتحدة (الثلاثاء الماضي) إنه أنهى “سبعة حروب في سبعة أشهر”، مؤكّداً أنه “صانع” السلام العالمي. رحّب قادة الدول العربية والإسلامية في أثناء اجتماعهم مع ترامب بالاقتراح الذي قدّموا تعديلات عليه، وأكّدوا أنهم يعارضون أيَّ إجراء قد يهدّد إصلاح السلطة الفلسطينية أو يمنعها من أن تكون مؤهّلةً للحكم في كلٍّ من غزّة والضفة الغربية، وطالبوا بضمانات لعدم ضمّ أجزاء من الضفة الغربية أو أيّ إجراء من شأنه تعديل الوضع القانوني والتاريخي للأماكن المقدّسة في القدس، وطلبوا تأكيدات بعدم تهجير سكّان غزّة ووضع أيّ عائق لعودتهم، وبعدم أيّ محاولة لاحتلال الأراضي، وفق مصادر دبلوماسية… ولقد صرح دونالد ترامب أخيراً أنه لن يسمح لإسرائيل بضمّ الضفة الغربية.
وفقاً لموقع أكسيوس، فإن الخطّة الأميركية ستشمل دوراً للسلطة الفلسطينية، وإنشاء قوة أمنية تجمع بين الفلسطينيين والقوات القادمة من دول عربية وإسلامية، بالإضافة إلى تمويل من “دول المنطقة” لدعم إعادة الإعمار والإدارة الجديدة في غزّة. وصف المقترحات الأميركية بأنها “متغيّرات لأفكار نُوقشتْ خلال الستة أشهر الماضية، وتحديثات لخطط سابقة قدمها جاريد كوشنر، صهر دونالد ترامب، ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير”. فهل تندرج وعود دونالد ترامب ضمن إنجازه الذي ينتظر من الإنسانية أن تدين له به، ويؤهّله إلى جائزة نوبل للسلام، كما يحلم ويدغدغ حلمه بعض القادة في العالم؟ وهل سيتحقّق السلام العادل في المنطقة، ويحصل الفلسطينيون على حقوقهم المشروعة أخلاقياً وتاريخياً؟ لم يمضِ الزمن الكافي لنسيان ما طرحه ترامب في فبراير/ شباط الماضي بتحويل غزّة “ريفييرا” الشرق الأوسط، بعد أن ينقل سكّانها الفلسطينيين، ويضع الإقليم تحت السيطرة الأميركية، مع تأكيد وعوده بإنهاء وجود أكثر من مليونَي فلسطيني في غزّة بشكل نهائي، مشيراً إلى أنهم لن يُسمح لهم بالعودة. واقترح في وقت ما أنه قد يفرض على مصر والأردن استقبالهم من خلال التهديد بقطع المساعدات الأميركية، كما وعد الفلسطينيين بأرض بديلة، وكأن الفلسطينيين ليس لهم أرض ويبحثون عن مكان يستوطنون فيه، وليس استعادة تاريخ ضائع وحقوقهم المغتصبة.
يتمسّك الفلسطينيون بغزّة جزءاً متبقياً من وطنهم، مع كل الهمجية والدمار والإبادة، بالإضافة إلى جيوب من الضفة الغربية، بعد حروب 1948 و1967، وما تلاها من حروب صغيرة، واعتداءات وبناء المستوطنات، والقضم المستمرّ لأراضي الفلسطينيين. ترامب، التاجر الحالم، البارع في إدارة “البازارات”، نشر منذ مدّة فيديو أنشئ بواسطة الذكاء الاصطناعي في حسابه في Truth Social، يشهر الصورة التي يحلم بها لقطاع غزّة. بعد صور القطاع المدمّر، ظهرت ناطحات سحاب متلألئة، وشواطئ رائعة، ويخوت فاخرة، والمال يتساقط من السماء، و”تمثال عملاق له”، ممّا أثار غضباً حتى بين مؤيّديه. فكيف نصدّق أن هذا الطامع الطامح ينوي بصدق تحقيق السلام في المنطقة، وضمان حقوق الفلسطينيين؟
تجاهل الإبادة والحزن والمعاناة والكرامة بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني لن يؤدّي إلا إلى هدن وحروب لن تحقّق سلاماً عادلاً
أشار بيان مشترك من الدول العربية والإسلامية المشاركة في اجتماع الثلاثاء إلى أن القادة “أعادوا تأكيد التزامهم بالتعاون مع الرئيس ترامب وشدّدوا على أهمية قيادته لإنهاء الحرب”. كما نقل “أكسيوس” عن مسؤولين عرب قولهم إن المشاركين غادروا “متفائلين للغاية… للمرّة الأولى، شعرنا أن هناك خطّةً جدّيةً على الطاولة”، كما قالوا. هذا ما ينقله الإعلام، وهذا الظاهر أمام الرأي العام (العربي والعالمي)، لكن من المعروف في عالم السياسة أن هناك ما هو “فوق الطاولة”، وما هو “تحتها”، ولن نعرف ما المخفي تحت طاولة اللعب السياسي والصفقات في الغرف المغلقة، فمشروع ترامب مشروع واعد بالنسبة إليه، ولمؤيّديه وحيتان المال والشركات العملاقة في العالم، وطرحه الماضي حول غزّة أسعد إسرائيل كثيراً، وتداولت كثير من الصحف والمنابر الإعلامية تصوّراته المتنوعة عن غزّة المستقبل، كما تُرسم صورة الدجاجة في خلد الثعلب في القصص الكرتونية. فقد كشفت “واشنطن بوست” (في 31 أغسطس/ آب الماضي) وثيقةً من 38 صفحة تُتداول في الإدارة الأميركية، وتفصّل خطّةً لإعادة إعمار الأراضي الفلسطينية التي سيتم إفراغ سكّانها بالكامل.
لقد لعبت الولايات المتحدة دوراً مركزياً في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فعملت غالباً وسيطاً بين الطرفَين، لكن تلك الوساطات والمحاولات لحلّ الصراع (والتسوية) باءت بالفشل، وتغيّر الواقع كثيراً عمّا كان قبل عقود قليلة، وها هو دونالد ترامب اليوم يقوم بمحاولة جديدة لإحياء عملية السلام، محاولة يبدو واثقاً بنجاحها، بعد أن يذكّر العالم بإنجازاته الخارقة في تحقيق السلام وإخماد حروب عديدة امتدّت عقوداً في أكثر من بقعة من العالم، وأنه أنهى “سبعة حروب في سبعة أشهر”، فأين هي منجزاته البطولية؟
هل حلّ أيّ شيء جوهري في النزاع بين كمبوديا وتايلاند بعد إعلانه أنه هدّد قادة الدولتَين الجارتَين بوقف المفاوضات التجارية مع الولايات المتحدة، إذا لم يتم التوصّل إلى وقف إطلاق نار؟ منذ ذلك الحين يتهم كل طرف منهما الآخر بانتهاك وقف إطلاق النار. وماذا عن جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا؟ أما زالت هناك معارك بين الجيش الكونغولي ومجموعة مسلّحة مناهضة للحكومة المدعومة من رواندا بعد توقيع اتفاقية في يونيو/ حزيران الماضي؟ وما الذي جرى بعد صدام باكستان والهند، القوَّتَين النوويَّتَين، أخيراً وأسفر عن أكثر من 70 قتيلاً في الجانبين، وأعلن دونالد ترامب نفسه وقف إطلاق النار بينهما، ونسب الفضل إلى نفسه، فأيّدته باكستان، بينما كذّبه رئيس الوزراء ناريندار مودي لاحقاً، وأكّد أن نيودلهي لم يطلب من أيّ زعيم أجنبي التدخل لوقف الأعمال العدائية؟ ولماذا نذهب بعيداً من منطقتنا والعداء مزمن بين إسرائيل وإيران، ودفعنا ثمنه باهظاً؟ بعد 12 يوماً من الحرب التي شنّتها إسرائيل على إيران (13 يوليو/ تموز)، أعلن الرئيس الأميركي “هدنة كاملة” بين البلدَين. ومع ذلك، يمكن التساؤل عن استدامة هذه الهدنة، إذ يستمرّ البرنامج النووي الإيراني في توتير العلاقات بين إيران والدول الغربية، ويؤكّد المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، أن طهران لن تتنازل عن مسألة تخصيب اليورانيوم.
لن يكون هناك سلام من دون اعتراف العالم مجتمعاً بالسردية الفلسطينية
هذه بعض من عمليات السلام التي يدّعي ترامب أنه أنجزها، بينما في الواقع ما تزال أسباب الصراع قائمة بين تلك الأطراف المتحاربة. ألا يثير هذا التاريخ القريب النابض بالتوترات، والحافل بما يدحض ادّعاءات ترامب، حفيظة قادة الدول العربية والإسلامية؟ ترفض الولايات المتحدة التوافق الدولي على حلّ الدولتين الذي تجسّد في المؤتمر الدولي الذي رعته فرنسا والسعودية، وما رافقه من اعتراف بالدولة الفلسطينية، وهذا في ذاته يدحض أيّ نيّة في تحقيق السلام، فالمشكلة عند الفلسطينيين ليست مشكلة أرض يعيشون فوقها كما يتخيّل ترامب، فيعدهم بـ”أرض جديدة رائعة” في مكان آخر، بل إنها مشكلة تاريخ وهُويَّة، وإلا فما كانوا تحمّلوا هذا الصراع الأطول، وأكثر الصراعات تعقيداً في العالم، ومحاولات إسرائيل الدائمة لطمس الوجود الفلسطيني والهُويَّة الفلسطينية منذ إنشاء دولة إسرائيل عام 1948، وما تلاها من حروب وانتفاضات فلسطينية، ومفاوضات سلام متقطعة، من دون أن تصل إلى حلّ دائم. لن يكون هناك سلام من دون اعتراف العالم مجتمعاً، خاصة حلفاء إسرائيل، بالسردية الفلسطينية، التي تعمل إسرائيل، بكل طاقتها ودعم حلفائها، لمحوها بترسيخ شرعية سرديتها ووجودها، وهم يعرفونها تمام المعرفة، لأنهم أكبر صانعيها.
تجاهل الإبادة والحزن والمعاناة والمشاعر المؤلمة والكرامة بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني لن يؤدّي إلا إلى سلسلة من الهدن والحروب التي لن تحقّق، على المدى الطويل، أيّ شيء مما يدّعيه العالم من “سلام عادل”، ولا حتى “غير عادل، بحلّ الدولتَين، بعدما أصبحت أرض الفلسطينيين جُزراً معزولةً بعضها عن بعض، في محيط من الكراهية والعنصرية والحقد واستمرار التفوّق بحكم القوة.
المصدر: العربي الجديد