جمال عبد الناصر والوحدة والانفصال: حكاية أمة بين الحلم والمؤامرة

الحاج بكر الحسيني 

 

لم تكن الوحدة بين مصر وسوريا وليدة قرار عابر أو نزوة سياسية في ظرف استثنائي، بل كانت تجسيداً حياً لأشواق الجماهير العربية في منتصف القرن العشرين، يوم نهضت الأمة تبحث عن خلاصها من قيود الاستعمار وأغلال التجزئة. في تلك السنوات التي أعقبت الاستقلال، كان الوطن العربي يتلمس طريقه نحو النهوض، وكانت عيون الملايين تتجه نحو القاهرة حيث صعد نجم جمال عبد الناصر، قائد ثورة يوليو المجيدة، الذي أعاد للأمة ثقتها بنفسها ورفع رأس العرب عالياً في وجه الإمبراطورية البريطانية والعدو الصهيوني. ولعل اللحظة الأبرز التي تجسدت فيها هذه الروح كانت يوم قصد ضباط سوريون عبد الناصر في القاهرة، يطرقون بابه لا طمعاً في منصب ولا بحثاً عن مكاسب، بل حاملين مطلباً تاريخياً عظيماً: وحدة سوريا ومصر في كيان واحد، يذيب الحدود المصطنعة ويعيد للعرب جزءًا من كيانهم الممزق.

لقد كانت سوريا في خمسينات القرن الماضي تعيش حالة قلق سياسي واضطراب داخلي، فالمؤامرات الأجنبية تحاصرها، والانقلابات العسكرية تتناوب على الحكم فيها، والفراغ الإقليمي يجعلها مطمعاً لكل متربص. وكانت الجماهير السورية، بوعيها القومي المبكر، تردد الهتاف الذي دوّى في ساحات دمشق وحلب وحمص: “وحدة، حرية، اشتراكية”، فلم تجد القيادة السياسية والعسكرية السورية ملاذاً سوى التوجه إلى عبد الناصر، الرجل الذي جسّد في نظر العرب جميعًا صورة القائد القادر على حماية الاستقلال وصون الكرامة. وهكذا حمل الضباط السوريون – الذين ذهبوا إلى القاهرة في مطلع عام ثمانية وخمسين – طلباً لا رجعة فيه: أن تكون الوحدة اندماجية كاملة، لا مجرد تحالف فضفاض، وأن يتولى عبد الناصر قيادتها بما له من شرعية شعبية وسياسية.

عبد الناصر لم يكن متحمساً منذ اللحظة الأولى، فقد كان يدرك خطورة التجربة وتعقيداتها، وكان يخشى أن تكون الوحدة مجرد اندفاع عاطفي لا يملك أدوات النجاح. لكنه أمام إصرار السوريين، وأمام المد الجماهيري العربي المتعطش للوحدة، لم يستطع أن يتجاهل نداء التاريخ. فقال قولته الشهيرة: “لن أكون إلا صادقاً معكم، الوحدة مسؤولية كبرى، لكنها قدر الأمة العربية”. وهكذا أعلن في 22 من شباط/فبراير عام 1958 ميلاد الجمهورية العربية المتحدة، فامتلأت الشوارع العربية بملايين البشر يحتفلون بالحلم الذي صار حقيقة، وارتفعت صور عبد الناصر في دمشق جنباً إلى جنب مع أعلام مصر، في مشهد لم تعرف الأمة مثيلاً له منذ قرون.

كانت الوحدة حدثاً كاسحاً لم تستطع القوى الاستعمارية استيعابه، فاندفعت إلى محاصرته بكل الوسائل. لكن قبل أن نتحدث عن المؤامرات الخارجية، لا بد من الاعتراف أن تجربة الوحدة حملت بذور الصعوبة منذ بدايتها، إذ واجهت تحديات في التوفيق بين نظامين اقتصاديين مختلفين، وبين بيروقراطية مصرية مركزية وخبرة سورية برلمانية تعددية. وكان عبد الناصر صريحاً حين تحدث عن هذه التحديات، مؤكداً أن الوحدة ليست وصفة سحرية لحل كل المشاكل، بل هي إطار للنضال المشترك وتجاوز العقبات. غير أن هذه الصعوبات لم تُضعف من حماسة الجماهير، التي بقيت ترى في الوحدة ملاذاً من التجزئة وبداية طريق نحو تحرير فلسطين.

القوى المعادية للعروبة لم تسكت. الغرب الاستعماري، بزعامة الولايات المتحدة وبريطانيا، رأى في الجمهورية العربية المتحدة تهديداً مباشراً لمصالحه النفطية والسياسية، والعدو الصهيوني أدرك أن وجود دولة عربية موحدة على حدوده هو كابوس استراتيجي، بينما ارتعبت أنظمة رجعية عربية خافت من أن تنتقل شرارة الوحدة إلى شعوبها. وبدأت المؤامرات تتكاثر، بالمال والدعاية السياسية، تارة عبر الترويج لفشل التجربة الاقتصادية، وتارة عبر التحريض الطائفي والإقليمي، حتى وُضع المناخ المناسب للانقلاب.

في فجر 28 من أيلول/سبتمبر عام 1961 وقع الانفصال المشؤوم. قاد مجموعة من الضباط السوريين انقلاباً عسكرياً بقيادة عبد الكريم النحلاوي، وأعلنوا إنهاء الجمهورية العربية المتحدة، في لحظة مأساوية كسرت قلوب الملايين من العرب. لكن المدهش أن هؤلاء الضباط أنفسهم لم يستطيعوا إنكار حقيقة عبد الناصر ومكانته، بل إن النحلاوي نفسه، بعد عقود، وقف على شاشة “الجزيرة” في برنامج “شاهد على العصر”، وقال بلسانه: “لو ركب عبد الناصر طائرته ونزل إلى دمشق لسقط الانقلاب في يومه الأول”. شهادة كهذه لا تحتاج إلى تفسير، فهي تؤكد أن الانفصال لم يكن انعكاساً لإرادة الشعب، بل كان انقلاباً فوقياً ضد تيار شعبي جارف ظل وفياً لعبد الناصر حتى آخر لحظة.

عبد الناصر، الذي ذاق مرارة الانفصال، رفض أن يزج بالجيش المصري لفرض الوحدة بالقوة. كان يستطيع أن يرسل كتائبه إلى دمشق، لكنه أبى أن تتحول الوحدة إلى احتلال، وأرادها أن تبقى مشروعاً إرادياً حراً. هذا الموقف يجسد الحس القومي العميق الذي حمله عبد الناصر، فهو لم يكن باحثاً عن توسع سلطوي أو مجد شخصي، بل كان مؤمناً بأن الوحدة لا قيمة لها إن لم تكن نابعة من إرادة الجماهير. ولذلك آثر أن يحافظ على الحلم حياً في وجدان الأمة، بدلاً من أن يلطخه بالدماء.

لقد ظل عبد الناصر بعد الانفصال وفياً لفكرة الوحدة، يذكرها في خطبه كأفق لا بد أن تعود الأمة إليه. وفي كل معركة خاضها – من مواجهة العدوان الثلاثي عام ستة وخمسين، إلى حرب الاستنزاف بعد نكسة 1967 – بقي يؤكد أن الكرامة العربية لا يمكن أن تُستعاد إلا بالوحدة، وأن فلسطين لن تتحرر إلا إذا نهض العرب كتلة واحدة. وكان صوته في المحافل الدولية، من باندونغ إلى حركة عدم الانحياز، يعبّر عن أمة لا عن دولة، وعن مشروع قومي لا عن حدود ضيقة.

الانفصال لم يكن نهاية الحلم، بل كان بداية وعي أعمق. فقد خرجت الجماهير العربية من التجربة أكثر إصراراً على مطلب الوحدة، وأكثر إدراكاً لحجم المؤامرات التي تُحاك ضدها. ورغم أن الانفصال ترك جرحاً في وجدان الأمة، إلا أن عبد الناصر بقي رمزاً خالداً، لا يختزل في حدود مصر أو سوريا، بل يتجاوزها إلى كل شبر من الوطن العربي. كان رجلاً جسّد الكرامة في زمن الانكسارات، وكان قائداً حمل مشروع العروبة على كتفيه، فصار صوته وملامحه ودموعه جزءًا من ذاكرة أمة بأكملها.

اليوم، ونحن نستعيد ذكرى الانفصال، لا نفعل ذلك لنرثي الماضي فقط، بل لنؤكد أن الفكرة لم تمت، وأن المؤامرة التي أسقطت الجمهورية العربية المتحدة لم تُسقط إيمان الأجيال بأن مستقبل العرب لا يكون إلا بالوحدة. فكما قال عبد الناصر: “إن ما أخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة”، كذلك فإن ما فُرض بالتجزئة لا يُسترد إلا بالعزيمة والإرادة. ومهما تكاثرت الانقلابات والانقسامات، فإن صوت الجماهير سيبقى أعلى، وسيبقى يردد: “عاشت الوحدة العربية”.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الوحدة السورية المصرية لم تكن إلا تجسيداً حياً للإيمان بالإنتماء القومي العروبي من خلال توحيد اقاليم الوطن العربي، بذكرى الانفصال، نؤكد بأن الفكرة لم تمت، وأن المؤامرة التي أسقطت الجمهورية العربية المتحدة لم تُسقط إيمان شعبنا بمستقبل الأمة العربية لا يكون إلا بالوحدة. ذكرى الإنفصال كيوم أسود كان أيضاً يوم رحيل الرئيس القائد جمال عبد الناصر عليه رحمة الله.

زر الذهاب إلى الأعلى