العراق في استحقاقات نهاية العام

عبد اللطيف السعدون

سألتُه بعد عودته من زيارة له إلى العراق، كيف رأى المشهد هناك؟ أجاب: “لا يسرّ صديقاً، ولا يغيظ عدوّاً، لم ألحظ أحداً يعرف عن يقين إلى أين القوم سائرون، ما طفا على السطح من صور وتغريدات وتصريحات، وما شاهدته من وقائع صارخة في الشارع والمكتب والبيت، كشف لي، بما لا يقبل الشك، حالة فصام بين ما يفترض أنها “دولة” بالمعنى الذي اختبرناه وما هو ماثل مما يطلقون عليه جزافا تسمية “مؤسّسات”، وكل مخارج ما يطفو على السطح أمام الزائر يعكس توتّراً وفوضى وضيق أفق لدى جميع الفاعلين في السياسة والمجتمع، حاكمين ومعارضين، وقد وصل الحال إلى درجة تخيّل “سيناريوهات” جاهزة تنتظر التنفيذ على يد قوى خارجية قد تقتحم المشهد في أية لحظة لتسقط “العملية السياسية” القائمة، وتحل “عملية سياسية” جديدة محلّها، وتضع هذه السردية المفترضة في ثناياها إنهاء سيطرة الأحزاب الإسلامية الموالية لإيران على القرار، وإجبار “الإطار التنسيقي” على التخلي عن الحكم، سواء عن طريق إيصال قوى أخرى إلى السلطة، ربما قوى شيعية، ولكن من غير الموالين لولاية الفقيه، عبر “الانتخابات” المقرّر إجراؤها في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، أو نتيجة ضغوط اقتصادية أو ضربات عسكرية محدودة، وما اتخذته من خطوات الولايات المتحدة والأمم المتحدة باتجاه المسألة العراقية أخيراً ربما يمثل المقدّمات العملية للتغيير المحتمل.

وثمّة وقائع على الأرض لم تغب عني وأنا أتابع ما أشاهده أو أسمعه أو أقرأ عنه، وأجد خيوطاً تربط بين ما هو ماثل وما يتوقع حدوثه في المدى المنظور، إنهاء بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق، وإنهاء مهمّة التحالف الدولي، وإعادة تموضع العسكر الأميركيين في العراق، والتأكيد الأميركي على دعم “البيشمركة” وجهاز مكافحة الإرهاب مع تقليص الدعم الممنوح لقوات الجيش، وإدراج ست مليشيات مرتبطة بالحرس الثوري على قائمة المنظمات الإرهابية.

رصدت هناك أن التلويح بهذه السردية من سياسيين وإعلاميين من أطراف مختلفة اقترن بطرح “سيناريوهات” معاكسة من آخرين، مثل فكرة استدعاء الحرس الثوري الإيراني للسيطرة على بغداد أو التهديد بإلحاق العراق بالجمهورية الإسلامية، وبعض من هذا الشطط دفع رئيس الحكومة، محمد شياع السوداني، إلى إصدار أمر باعتقال مستشار سابق دعا إلى رفع العلم الإيراني دلالة على فكرة “الالحاق” تلك.

ثمة حقائق على الأرض، لا يمكن القفز عليها، لأنها ترتدّ على العراق بحكم موقعه الجيوسياسي

لافتٌ هناك أيضاً أن يصل بعضهم إلى حد الدعوة البريئة العراقيين إلى تخزين مواد غذائية ومستلزمات العيش اليومي، وكأن هناك احتمالا لأن يصل الحال إلى ما هو أسوأ، هجوم عسكري واسع من قوة أجنبية أو نشوب حروب طائفية في هذه المدينة أو تلك.

لم يترك هذا المشهد المعقد والمضطرب المجموعة الحاكمة من دون ردود أفعال، وبخاصة من “الإطار التنسيقي” الذي توشك عراه أن تنفصم على وقع الخلافات والاتهامات بين أطرافه، وهو ما جعل زعيم حزب الدعوة والمهيمن الأقوى على المجموعة الحاكمة، نوري المالكي، يعمد إلى محاولة تطمين أنصاره بأن ما يقول به بعضهم غير وارد “ما دام أبناؤنا قابضين على السلاح” لصد أي مؤامرة، لكنه لم يترك فرصة مهاجمة دعاة تأجيل الانتخابات، أو مقاطعتها باعتبار ذلك جزءا من المؤامرة، كما لم ينس أن ينوّه بدور للبعثيين في هذا.

لم يخلُ المشهد أيضا من أصداء لأصوات عراقية مقيمة في الخارج تطرح مشاريع وخططا، وتبشّر بتغيير حاسم يضعها في الصدارة، لكن عيونها على قوى خارجية تسهّل أمر وصولها إلى بغداد مثلما وصل سابقوهم!

هذا كله ما يطفو على السطح أمام الزائر، لكن ما يتحصل من ذلك نوع من القناعة أن ثمّة استحقاقات تنتظر العراق قبل نهاية العام، وأنها غير مكتملة المعالم، وفي الوقت نفسه، ثمة حقائق على الأرض، لا يمكن القفز عليها، لأنها ترتدّ على العراق بحكم موقعه الجيوسياسي، حيث الأميركيون والغرب لا يريدون أن يروا إيران مسلحة نوويا، كما يرفضون أن يكون العراق ساحة مفتوحة أمام إيران، أو لوكلائها النافذين ومليشياتها المهددة لأمن المنطقة. وعلى وقع هذه الحقائق، تتقدّم “السيناريوهات” الضامنة لذلك، وتشكل استحقاقا مفروضا على العراق، شاءت المجموعة الحاكمة اليوم أم أبت، أمّا مسألة من يُقصى، ومن يحل محله فتلك تفصيلات متروكةٌ لمن يمتلكون قوة القرار النافذ، ومن يعش ير.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى