القديم المُتجدِّد من ذاكرة الثورة

حسن النيفي

ثمة موقفان أشعر بارتياح كبير ممزوجاً بمزيد من الثقة للركون إليهما منذ الأيام الأولى لانطلاق الثورة السورية (آذار 2011)، أمّا الأوّل فيتمثل بقناعتي أن نظام الأسد لم يكن من الممكن إصلاحه، فهو مصابٌ بالعقم المطلق، ولذلك فإنّ أي مواجهة مع السلطة الأسدية لا شكّ أنها ستكون مواجهة جذرية، وأي معركة جزئية أو مرحلية أو تكتيكية لا شك أنها ستكون خاسرة بالنسبة إلى الثائرين عليه، وهذا ما أثبتته مواجهات الثمانينيات بين جماعة الإخوان المسلمين والسلطة في حلب وجسر الشغور، وتكرر الموقف الخاسر ذاته في أحداث حماة الدامية عام 1982.

لا ينتابني أي شك بأن موقفي هذا ليس كشفاً معرفياً ولا استشرافاً سياسياً أدّعيه دون سواي، ولا لأيّ سمة أمتاز بها عن غيري، بل ربما لتجربة عن قُرب كما يقال، جعلتني، مع كثيرين من أبناء سوريا وبناتها، أرى في السلطة الأسدية ما لا يراه الآخرون، وأعني سنوات طويلة من الاعتقال تمتد إلى عقد ونصف من الزمن، كان شطرٌ منها في أشد السجون قذارة حينذاك.

ومن خلال ما مارسه نظام الأسد بحق عشرات الآلاف من المعتقلين والمعتقلات وذويهم حتى الدرجة الرابعة، أيقنتُ أن تلك السلطة لا يربطها مقدار ذرّة من الانتماء للشعب السوري، وأن من يمسك برأس السلطة لا يرى نفسه حاكماً للبلاد، بل هو مالك لها، فهو صاحب مزرعة، وجميع الكائنات داخل هذه المزرعة تصلح أن تكون ذبائح في المناسبة التي يشاء مالكها، هذا ما كانت توحي به صور المعتقلين وهم يُساقون إلى المشانق في باحات سجن تدمر الصحراوي.

لم أكن مأخوذاً بعبارات جلْد الذات التي كان يرددها كثيرون، وما يزالون: “لو أننا تحاشينا رفع الشعار الفلاني لنجونا من المقتلة، أو لولا وجود ظاهرة الجيش الحر لما أمطرتنا طائرات الأسد بالبراميل“..

في الأشهر الثلاثة الأولى لانطلاق صيحات الحرية والكرامة، وموازاةً مع تصاعد العنف السلطوي تجاه صدور المتظاهرين السلميين، ازدادت قناعتي رسوخاً بأن شعارات “السلمية” التي يطلقها المتظاهرون في سائر المدن والبلدات السورية، وباقات الزهور التي يلقي بها المتظاهرون على عناصر الجيش والأمن في داريا، لن تحول دون توجّه الرصاص الأسدي إلى صدورهم.

ولم أكن مأخوذاً بعبارات جلْد الذات التي كان يرددها كثيرون، وما يزالون: “لو أننا تحاشينا رفع الشعار الفلاني لنجونا من المقتلة، أو لولا وجود ظاهرة الجيش الحر لما أمطرتنا طائرات الأسد بالبراميل”، بل كنتُ -وما أزال- على يقين بأن أي هتاف أو صيحة مناهضة لنظام الأسد، ولو كانت غايةً في النعومة والوداعة، فلن تواجهها السلطة إلّا بالرصاص.

ومنذ ذاك كان موقفي هذا يتواتر، سواء عبر بعض القنوات التلفزيونية التي كان يُتاح لي الحديث من خلالها، أو عبر ما أكتبه من مواد صحفية في بعض الصحف والمواقع، بطريقة ربما بدت مثيرة للاستفزاز لدى كثيرين كانوا يجدون في كلامي ضرباً من التطرف وابتعاداً عن الواقعية، وخاصةً عند من بدأت مناهضتهم لنظام الأسد عام 2011، وربما كان قسم منهم ممّن توسّم خيراً بتوريث بشار الأسد، عام 2000، ظنّاً منه أن هذا الرئيس الجديد، الشاب الطبيب المثقف المزوّد بحب التكنولوجيا الحديثة والقيم العصرية، سوف ينقل البلاد من ظلام الدكتاتورية إلى واحة الديمقراطية والحداثة.

وربما تعزّز في أذهان كثيرين أن ظاهرة ما سُمّي “ربيع دمشق” كانت إرهاصاً حقيقياً بمستقبل أكثر انفتاحاً في سوريا، في حين أن شبل الأسد كان وفيّاً وغير مفارقٍ لنهج التأسيس، وكانت تجليات هذا الإخلاص للأصل ماثلة في حملة الاعتقالات التي طالت أعضاء إعلان دمشق وعدداً من ناشطي منظمات المجتمع المدني في عام 2007 وما بعده.

ولعلّي كنتُ دائم التكرار -إلى درجة الابتذال- لمَثلٍ أستعين به لإيصال فكرتي: “نظام الأسد ككوم من رمل، سيبقى منتصباً بكليّته، ولكن ما إن تهاوت أولى الحصى من أسفله حتى تداعى إلى الانهيار بكليّته”.

لقد صمد نظام الأسد طوال أربعة عشر عاماً بفعل الدعم العسكري الروسي والإيراني، وحين انحسر هذا الدعم، فقد ظهر عُريه كاملاً، وربما كانت هزيمة قواته على أبواب مدينة حماة هي أولى الحصى التي تداعت، حيث أصبحت أبواب دمشق مشرعةً أمام قوات “ردع العدوان” بعد يومين فقط.

أمّا الموقف الثاني فيتجسّد في قناعتي بعدم جدوى معظم المقاربات الأممية ذات الصلة بالقضية السورية، وبخاصة القرار الدولي 2254 لعام 2015 وما تفرّع عنه من مسارات، وعلى وجه التحديد “مؤتمر سوتشي” (30 كانون الثاني 2018)، و”مسار أستانا” (كانون الثاني 2017)، و”اللجنة الدستورية” التي صدر قرار تشكيلها في 23 من أيلول 2019، ليس رفضاً لمبدأ التفاوض مع السلطة، ولا رفضاً للحلول السلمية، بل لأنّ عماد تلك المقاربات هو البند الأساسي الذي يؤكّد على تشكيل حكومة انتقالية مشتركة من النظام والمعارضة بصلاحيات كاملة، ولا يتضمّن البند ما يشير -نصّاً- إلى استبعاد الأسد من تلك الحكومة.

ولعل قناعتي آنذاك وما تزال، أنّ نظام الأسد لا يمكنه القبول بمبدأ المشاركة مطلقاً، وثانياً أنّ بشار الأسد لا يمكن أن يتنازل قيد أنملة عن السلطات الممنوحة له، بل إن تنازله ولو عن بعض منها إنما يعني بداية انهياره.

وكنت شديد التكرار  -طوال سنوات مضت- وإلى حدّ الملل، في القول إنّ موافقة سلطة الأسد على تلك المقاربات لا تعني الالتزام الفعلي بها، وإنما لا تعدو كونها استثماراً للوقت، موازاةً مع استمراره بالحل الأمني المتمثل بالمزيد من قتل السوريين وتشريدهم.

ولعله لن يغيب عن ذاكرة السوريين أنّه في ذروة نشاط مسار أستانا نفّذت قوات نظام الأسد -مدعومة من سلاح الجو الروسي- في شباط 2020، أكبر عملية اجتياح لمناطق خان شيخون ومعرة النعمان وسراقب وكفرنبل في ريف إدلب إضافةً إلى ريف حلب الغربي، وتسبّبت بنزوح مئات الآلاف من أهالي تلك المناطق.

ما استثارني نحو العكوف على الذاكرة لاستجلاء تلك المواقف التي باتت جزءاً من ذاكرة الثورة، هو رؤيتي للعديد ممّن استفزّهم موقفي حينذاك، ولعل بعضاً منهم أصدقاء ومعارف، ولكن الخلاف في الرأي قد أفسد للودّ قضية..

ولعل هذا الموقف أثار حفيظة الكثيرين آنذاك، وخاصة الكيانات الرسمية للمعارضة (الائتلاف، اللجنة الدستورية، أعضاء وفود أستانا)، إذ عده كثير من هؤلاء شكلاً من أشكال المزايدة، وربما نعته بعضهم بأنه لا يبتعد عن جوقة الخطاب الشعبوي المناهض لأطر المعارضة الرسمية، ولعل ألطف النعوت وأكثرها تهذيباً التي سمعتها آنذاك من شخصيات قيادية في المعارضة، أنّه “موقف عدمي ينمّ عن ضحالة وإفلاس سياسي”.

ما استثارني نحو العكوف على الذاكرة لاستجلاء تلك المواقف التي باتت جزءاً من ذاكرة الثورة، هو رؤيتي للعديد ممّن استفزّهم موقفي حينذاك، ولعل بعضاً منهم أصدقاء ومعارف، ولكن الخلاف في الرأي قد أفسد للودّ قضية مع كامل الأسف.

وأقول: إنّ عدداً من هؤلاء، وتحديداً بعد الثامن من كانون الأول 2024، بدا شديد الاندفاع، بل ومزاحمًا سواه لتقدّم الصفوف والانتصاب في المقدّمة، ليس للعمل وتقديم ما تحتاجه البلاد والعباد، بل للاعتياش على التجديف والقفز في الهواء من جديد.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى