
في أثناء انعقاد القمة العربية الإسلامية الطارئة في الدوحة، كان رئيس حكومة الإرهاب الإسرائيلي، نتنياهو، يجول في القدس برفقة وزير خارجية أميركا، ماركو روبيو، قبل انتقال الأخير إلى الدوحة. وفي متنزه حديقة داود، وفي أثناء الحديث عن نفق تاريخي هناك، قال نتنياهو: “القدس لنا، وستبقى لنا، ولن تقسّم إلى الأبد”، موجّهاً كلامه إلى الرئيس التركي، رجب طيّب أردوغان، الذي ردّ عليه بالقول: “لن نعطيك نقش سلوان أو حصاة واحدة من القدس الشريف”. ونقش سلوان هو نقش على حجر تدّعي إسرائيل أنه يؤرخ ماضي القدس، ويؤكّد حقّ اليهود بالأرض، وقد نقله العثمانيون إلى تركيا، ولا يزال هناك. حاول المسؤولون الإسرائيليون استعادته أكثر من مرّة، وكان الرفض التركي ثابتاً.
طلبت إسرائيل عام 1998 نقش سلوان، إبّان حكومة رئيس الوزراء التركي مسعود يلماز، وقدّمت إغراءً باستعدادها لدفع أيّ ثمن مقابله، وإعادة كل المخطوطات التركية الموجودة لديها. بقي الرفض التركي ثابتاً. في جلسةٍ ادّعى نتنياهو أن ذلك نابع من ردّة فعل وغضب إسلامي خشيته الحكومة التركية، وكان أردوغان رئيساً لبلدية إسطنبول. شهود حضروا كذّبوا رواية نتنياهو، وقالوا: “اختلق الأسباب والذرائع. أمّا الموقف التركي فثابت”. مرّة ثانية، طلب الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ النقش عام 2022، فجاء الجواب: “لا يسلّم النقش إلا للدولة الفلسطينية”. وهو اليوم بحماية جهاز المخابرات التركي في مكان آمن.
تخوض إسرائيل معاركَ وحروباً في كل الجبهات العسكرية، الأمنية، الدبلوماسية، الاستخباراتية، الثقافية، السياسية، العلمية، التاريخية
هذه إسرائيل، تلاحق الخبر والحجر، والوثائق والروايات، وتفبرك وتركّب وتستفيد من كل شيء، وتمارس الضغوط، وتخوض معاركَ وحروباً في كل الجبهات العسكرية، الأمنية، الدبلوماسية، الاستخباراتية، الثقافية، السياسية، العلمية، التاريخية، في محاولةٍ لإثبات الحقّ في ملكية أراضي فلسطين ولو بالتزوير والادّعاء، تتابع كل أثر لأيّ عميل إسرائيلي أو عسكري فُقِد في أرض عربية. ولا تزال مفتوحةًَ قصّة رون أراد، الجندي الإسرائيلي الذي وقع أسيراً في لبنان خلال المواجهات مع قوات الاحتلال في البقاع إبان اجتياح عام 1982. وقد حاولت إسرائيل، عبر قنوات مختلفة وأساليب متعدّدة، بالتهديد والترغيب والعروض الخيالية، الوصول إلى معلومات، أو استعادة جثمانه، ولم تنجح. ولم تترك إسرائيل قصّة الجاسوس الإسرائيلي الأشهر، إيلي كوهين، الذي كُشف أوائل الستينيّات في سورية ثمّ أُعدم. وجدت معلومات، اخترقت الأجهزة السورية، ثمّ مع سقوط النظام السوري ووصول أحمد الشرع إلى قصر الشعب في دمشق، سارعتْ إلى طرح الموضوع بدعم أميركي. وبعد لقاء ترامب الشرع في الرياض، ازدادت الضغوط، وسلّمت دمشق تل أبيب وثائق متعلّقة بالجاسوس كوهين، ثمّ وصلت إلى مقتنيات خاصّة تعود إلى الجاسوس الكبير، ولا يزال النقاش دائراً حول الوصول إلى رفاته لإعادته إلى “أرض الميعاد”.
لا تترك إسرائيل أثراً. لا تترك حجراً. لا تترك بشراً. تدور معركة كبرى مع أردوغان حول هذه المسألة، وهي مسألة تركية بامتياز. وعندما هاجم نتنياهو الرئيس أردوغان، خرج رئيس الوزراء التركي السابق، أحمد داود أوغلو، بتصريح قوي، اتهم فيه نتنياهو بأنه “لا يعرف القدس”، ومعروفٌ أن أوغلو انشقّ عن أردوغان قبل سنوات طويلة. المسألة بالنسبة إلى تركيا مبدئية، والمعركة مفتوحة. المؤلم في هذا السياق أن إسرائيل تسرق وتصادر وتستبيح كل فلسطين، بكل آثارها وتاريخها ومقدّساتها الإسلامية والمسيحية، وتمدّ يدها إلى آثار دول أخرى، وتدمّر مواقع تاريخية في لبنان وفي العراق، وتسرق آثاراً من كل الدول، وتهدّد قادتها، وتسرق تاريخهم ونقوشهم، وتهدّد عروشهم علناً، وتدمّر عواصمهم ومقدّراتهم وجيوشهم، وتستهدف خيراتهم وثرواتهم، ولا تقيم اعتباراً لهم. ستدّعي في مرحلة غير بعيدة أنها صاحبة الملكية العقارية والتاريخية والثقافية والفكرية والمائية والنفطية والحجرية في هذه العاصمة العربية وتلك، سيّما في الدول التي تقيم علاقات مباشرة معها أو علاقات غير معلنة، وتعتبر نفسها في دائرة الحماية الأميركية والرضا الإسرائيلي. وبالتالي، سيكون الجميع فعلياً تحت التهديد المباشر والابتزاز المفتوح. نقوش إسرائيل (ولو على حجر أساس) ثابت مقدّس، ولا قيمة لعروش العرب ومقدّساتهم. هل ثمّة بند في جدول أعمال اللجان التي كلّفتها القمّة العربية لتحديد آليات الدفاع العربي المشترك للدفاع عن تاريخ العرب وحقّهم في أرضهم؟
لن ينحو الذي يغطي سرقة فلسطين واستباحة دماء أهلها، أو يشارك بطريقة أو بأخرى في الجريمة التي لا مثيل لها في التاريخ، من الحقد والكراهية، والطمع بكل خيرات المنطقة لتحقيق حلم “إسرائيل الكبرى”.
المصدر: العربي الجديد