العائق السوري وتوظيفه إسرائيلياً

نزار السهلي

لا مجال للإنكار بأن حصاد الميزان السوري بعد الخلاص من نظام الأسد ثقيل، ودول كثيرة تحاول استثماره في المنطقة والإقليم، وفي مقدمتها إسرائيل، التي طَبَشَت كفتها من الحصاد بالعدوان على الأرض، وتجاوزت كل محظور قانوني وأخلاقي وإنساني، بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة والضفة والقدس، وعدوان على كل المنطقة العربية، وسوريا منها التي تواجه معطيات حصاد واقعٍ بالغ التعقيد، مع مخاطر جسيمة، لم تعد محصورة بأطماع المؤسسة الصهيونية في كل جغرافيا فلسطين، فهي تداهم واقع العرب من كل حدب وصوب، فإسرائيل تطل برأسها معربدةً، وهي تكاد تعلن انتصارها ليس على الفلسطينيين وحسب، بل على كل البشرية وقوانينها وشرائعها.

ففي الوقت الذي يتزايد فيه الحديث عن قرب توقيع تفاهمات سورية مع الاحتلال لوقف الاعتداءات الإسرائيلية شبه اليومية على السيادة السورية، وتأمين انسحاب إسرائيلي من الأراضي التي احتلتها بعد سقوط نظام الأسد، والعودة لتفاهمات فض الاشتباك عام 1974، يتأكد من الرعاية الأميركية لهذه المباحثات أو التفاهمات، التي وقع على مبادئها في عمّان بمقدمة “اتفاق الجنوب” والسويداء، أن هناك محاولات إسرائيلية أميركية وبضغط عربي، لفرض تسوية ظالمة على السوريين من خلال استثمار الوضع السوري والفلسطيني والعربي، الذي يدفع كله باللجوء إلى الارتماء في الحضن الإسرائيلي، والاستسلام لإرادته وحلوله كقدرٍ لا يُقاوم ولا يُرد.

هناك فرضيات ومتغيرات طرأت على المشهد السوري منذ سقوط النظام، وتكونت معها جملة حقائق أتت بها المسيرة الكفاحية للشعب السوري لتبلور هويته الوطنية، وتعبر عن إرادته السياسية المعنية ببناء المواطنة والحرية والديمقراطية والتعددية السياسية.

وعلى الرغم من الاعتقاد السائد لدى بعض المراقبين بأن التفاهم السوري الإسرائيلي القادم يشمل معظم الترتيبات الأمنية التي تضمن سيطرة أمنية إسرائيلية على الجنوب السوري – على الأقل الحرية الجوية – فإن الهوة أوسع بكثير مما يعتقده هؤلاء؛ ذلك أن حجم الاختلاف يتسع لقضايا أخرى هامة وأساسية كالتطبيع وإبرام معاهدة “سلام” بين سوريا وإسرائيل، مع رفض الأخيرة التنازل عن هضبة الجولان والاعتراف بالحقوق السورية. ومع أننا لسنا بصدد تعداد نقاط التباين في الموقفين السوري من جهة والأميركي الإسرائيلي من جهة ثانية، إلا أن الحديث المتكرر الأميركي عن دعم العدوان وتبريره والابتزاز برفع العقوبات، والتوغل الإسرائيلي والصمت عنه عربيًا، يؤشّر إلى حجم الضغوط التي تتعرض لها دمشق، مع التحذيرات التي توجه للسلطة بغارات عدوانية يومية تؤكد ذلك.

في التجربة الفلسطينية مع الاحتلال عبرٌ ودروس كثيرة، في حال امتلك السوريون والعرب حسن قراءة سياسة الخداع الإسرائيلي التي أدّت مهامها في بعض الجوانب الفلسطينية والعربية، بحيث أصبحت التفاهمات – تطبيعية كانت أم أمنية وسياسية – عوائق وعقبات أمام تحرر الشعوب من الاستبداد والاحتلال، ومعيقات حقيقية لنهضتها وبنائها. وللسوريين أيضًا تجربة مريرة في ذلك، يفترض بزوال الاستبداد تقليل هذه المرارة والانتباه أكثر لتلك المخاطر. هناك فرضيات ومتغيرات طرأت على المشهد السوري منذ سقوط النظام، وتكونت معها جملة حقائق أتت بها المسيرة الكفاحية للشعب السوري لتبلور هويته الوطنية، وتعبر عن إرادته السياسية المعنية ببناء المواطنة والحرية والديمقراطية والتعددية السياسية.

ومن على أرضية فهم مسيرة التحرر السوري من الاستبداد، وفهم طبيعة المحتل ونواياه وعدوانه على السيادة السورية، وجعل الخوف من البدائل هاجسًا دائمًا عند السوريين، وبأن التعايش بينهم مستحيل إن لم يكن تحت القمع والبطش؛ لذلك يتوجب عدم الانقياد نحو نزعة خاطئة ومدمرة للنسيج الوطني، وقد تمثلت إما بمحاولة طلب الانفصال عن الجغرافيا السورية، أو الانفصال عن العمق العربي والتناقض معه بحسب الرغبة الإسرائيلية في قضية العرب المركزية “فلسطين”، التي تعيش أسوأ تجربة في هذا المضمار.

ومن المعروف أن الكيان السياسي السوري الوليد في سلطته الحالية يفترض به تمثيل مجتمع موحد يعيش على أرضٍ واحدة وله دولة ذات سيادة، وعلى هذا الأساس فالحديث عن السلطة في دمشق باعتبارها كيانًا سياسيًا معنويًا بعد التحرير، هو حديث يفتقر للمادي المكوّن لعناصر وحدة المجتمع، بسبب تمزق العامل البشري وتشتيته وضربه وسحقه لمدة 14 عامًا.

الأحداث الجِسام التي مرّت على السوريين، وصولًا إلى التحرر من الطاغية، يجب أن تكون وتبقى مفاتيح لحوار سوري-سوري من أجل الوصول إلى تطبيق جدي لشعار بناء دولة مواطنة وحريات ومؤسسات وأحزاب سياسية.

لذلك بات من الأهمية بمكان إعطاء السلطة العمل السياسي الداخلي قيمته الفعلية، بتعريف أشمل للسياسة وحرياتها الاجتماعية بعيدًا عن الارتجال والخطابة، وتعويضًا عن حالة عاشها الشعب والمجتمع السوري لعقود طويلة في مسألة الخلط بين السلطة المتفردة وإهمال دور الشعب في المشاركة السياسية برعاية مصالحه والدفاع عن أرضه وسيادته. ويكون ذلك بتعزيز مسار المشاركة السياسية الواسعة للسوريين الذين يطمحون أن يكون لوطنهم شأن، فهذه النقلة الكبرى هي التي تعزز من روح التحدي والعزيمة لمواجهة العدوان على سوريا أو أي بلد عربي، وهي التي تحدد رؤية وموقف مسألة التعبير عن الهوية الوطنية والسيادة وكيفية الحفاظ عليها من أطماع إسرائيلية، لا تتم بقولٍ ساذج عن رعاية أميركية وغربية وعربية لضمانات التفاهم مع محتل غادر كما دلّت التجربة القاسية معه.

بكل الأحوال، الأحداث الجِسام التي مرّت على السوريين، وصولًا إلى التحرر من الطاغية، يجب أن تكون وتبقى مفاتيح لحوار سوري-سوري من أجل الوصول إلى تطبيق جدي لشعار بناء دولة مواطنة وحريات ومؤسسات وأحزاب سياسية. والأمور ليست كسب صيغة هنا وهناك أو رفضًا لها بقدر ما هي دلالات سياسية: فإمّا يكون الشعب السوري مرجعًا للوطنية والكرامة والمواطنة والسيادة، وإمّا أن تبقى الأمور مستخدمةً عائقًا يوظّفه المحتل بحكم الفراغ الناشئ عن عدوانه وإرث المستبد الفار، وعن الحالة الهلامية والباهتة للأوضاع السياسية والاقتصادية. وفي حال استمرار الفراغ السياسي ستبقى اليد الطولى لمشاريع محلية وإقليمية ودولية متناقضة مع مصالح الشعب السوري. وقد تكون الخلافات السورية الداخلية عميقة ومريرة بفعل أحداث كثيرة، غير أنهم مضطرون دومًا لإيجاد الطريق للحوار والكلام ومساندة بعضهم بعضًا لتجاوز الانكسارات التي أحدثها زوال الاستبداد وتجاوزات السلطة الحالية، والتي لا خيار أمامها سوى إزالة العوائق التي تحول بين السوريين وبين مواطنتهم وحرياتهم، وإعادة الاعتبار للعمل السياسي باعتباره ركيزة حماية المجتمع وقوة الدولة والمؤسسات التي تحمي حقوقه وتدافع عن سيادته. ولكي لا يكون التعايش السوري مستحيلًا مع مطالبه، لا يمكن إغفال ما سبق أن تطرق له السوريون في ثورتهم ورؤيتهم لدولتهم، ومن العوائق التي وظفها الاستبداد لصالحه ويحاول توظيفها المحتل لنفسه، مع إهمال السلطة لإزالتها من طريق السوريين، وهي توظف لخدمة عدوهم لا لعافيتهم المنتظرة.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى