
تتصرف إسرائيل منذ تأسيسها (1948) بوصفها دولة مستثناة من كل شيء، ولا تنطبق عليها معايير الدول، فهي لم ترسم لنفسها حدوداً جغرافية واضحة، إذ ترى أنها يمكن أن تمتدّ إلى حيث يصل طيرانها العسكري، أو حيث توجد دبّاباتها، وأما حدودها البشرية فلا تقتصر على اليهود الإسرائيليين، بل ترى ذلك يشمل اليهود في أي مكان، في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأميركا. أيضاً، تتصرّف باعتبارها دولة مستثناة من القانون الدولي، ولذا تعطي نفسها الحقّ بالقتل والقصف والتدمير والاغتيال في أي مكان، فضلاً عن أنها ترى نفسها غير معنية بالقرارات والمواثيق الدولية، التي يُصدرها المجتمع الدولي، ممثلاً بمجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة.
تعود مرجعية هذا الاستثناء، بالنسبة إلى إسرائيل إلى ناحيتين: أنها مدعومة من الولايات المتحدة التي تقدّم لها الغطاء السياسي والعسكري والمالي والتكنولوجي والاستخباراتي، اللامحدود. وأنها ترى في نفسها وريثة ضحايا “الهولوكوست”، وعلى العالم أن يتسامح مع جرائمها ضد الآخرين، من فلسطينيين، أو غيرهم في الدول المجاورة لها، كأنها ترى مظلومية اليهود تلك تمنحها الحقّ بكونها ضحية في تمثل ما فعله جلادو اليهود، بالفلسطينيين، على نحو ما تفعل في غزّة، عدا عن أنها تعتقد بأحقية احتكار مكانة الضحية في العالم، كأن هذا الوضع يجنّبها المساءلة.
طوال عامين، من حرب الإبادة الجماعية الوحشية، التي شنّتها إسرائيل على فلسطينيي غزّة، وشملت في بعض صورها الفلسطينيين من النهر إلى البحر، وتوسّعت في حربها إلى لبنان وسورية والعراق واليمن، وحتى إيران، وصولاً إلى قطر، وكأنها تريد تأكيد هويتها دولة غير طبيعية، بل ولا تريد أن تكون دولة طبيعية، أو عادية، وأنها تنظر إلى نفسها كياناً خارجاً عن كل منظومة القيم الأخلاقية والقانون الدولي.
تؤكّد إسرائيل أنها معنية بفرض السلام وفقاً لرؤيتها ومصالحها، بحيث يبقى الشرق الأوسط، أو على الأقل المشرق العربي، تحت هيمنتها
المشكلة أن الدول العربية، في معظمها، ما زالت تتعامل مع اسرائيل، كأنها امتداد طبيعي للمنظومة الغربية، أو كأنها محميّة بقوة أميركا، إلى حد يجعلهم ينأون بأنفسهم عن أي مواجهة معها، مهما كان مستواها، باعتبارها ورطة أو مخاطرة، أو نوعاً من العبث، يفترض تجنّبه، بل وإشهار العجز إزاءه. بيد أن هذا النوع من الفهم خاطئ، إذ هو الذي يشجّع إسرائيل على الاستمرار في عنجهيتها، واعتداءاتها، وتجاوزها كل الخطوط الحمر، وكل الأعراف، في محاولتها فرض نفسها قوة إقليمية عظمى في المنطقة.
لنلاحظ أن إسرائيل اليوم، بممارساتها العدوانية، وبما تنفّذه من مخطّطات على الأرض، تتجاوز، في حقيقة الأمر، حتى الدعم الغربي لها، بل وتتجاوز غطاء الولايات المتحدة السياسي، أي إنها تحاول فرض رغبتها في هندسة السياسة الأميركية إزاء المنطقة، في ظل انعدام فاعلية أطراف النظام العربي أو هشاشتها. ولنلاحظ، أيضاً، أن إسرائيل لم تعد فقط دولة تتمتع بالحماية، إذ باتت بمثابة مشروع توسّعي منفلتٍ من كل الضوابط، دولة بلا أية حدود، حرفياً ومجازياً. حدودها الوحيدة مدى سكوت الآخرين عن جرائمها، والتسليم بعجزهم إزاءها، وهنا الخطورة.
إذا استمر العالم العربي في النظر إلى إسرائيل “أمراً واقعاً”، وكائناً سياسيّاً مستثنى، لكونه محصّناً بالدعم الأميركي، فإنها ستمضي أكثر في التوحّش، وسيزداد تغلغلها في منطقتنا، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.
ما يفترض إدراكه من الأنظمة العربية، أن الأمر لا يتعلق بالاستعداد عسكرياً، فقط، إذ الأهم إدراك أن السلام الحقيقي لا يُصنع عبر تهميش الشعوب، أو إضعاف فاعليّتها، أو مصادرة حقوقها، كذلك لا يصنع عبر استرضاء الولايات المتحدة، أو الخنوع لما تريده إسرائيل. يؤكّد ذلك كله أن ما تفعله إسرائيل اليوم ليس سعياً نحو سلام، بل محاولة في هندسة المنطقة، وفقاً لمصالح إسرائيل، التي هي وصفة للخراب، وتجريف لكرامة الشعوب، وحقّها في تقرير مصيرها، ولا صلة لهذا بالسلام، على المستويين، القريب والبعيد.
ربما حان الوقت لتعيد البلدان العربية والإسلامية، على أقل تقدير، بناء سياساتها مع الولايات المتحدة من جديد
باختصار، تؤكّد إسرائيل، بحسب قادتها، من نتنياهو الى سيموتريتش الى بن غفير، أنها معنية بفرض السلام وفقاً لرؤيتها ومصالحها، بحيث يبقى الشرق الأوسط، أو على الأقل المشرق العربي، تحت هيمنتها، فهذا هو معنى فرض “السلام بالقوة”، الذي يتحدّث عنه نتنياهو، الذي أعلن صراحة سعيه لجعل حلمه بـ”إسرائيل الكبرى” حقيقة في أرض الواقع!
على ذلك، المطلوب اليوم ليس فقط إصدار بيانات إدانة، وشجب العدوان، أو تقديم المساعدات، بل إعادة صياغة الموقف العربي برمّته تجاه إسرائيل، وعلى الأقل عزلها إقليمياً وعربياً، باعتبارها دولة مارقة، وعدوانيةً، خارجةً عن المنظومة القانونية الدولية، وفاقدة للشرعية الأخلاقية والإنسانية؛ علماً أن هذا المسار بات مفتوحاً، بعد انكشاف جرائمها وتمدّد عدوانها إلى دول، ومثالها (قطر) تمارس دور الوسيط لتحقيق السلام.
ربما حان الوقت لتعيد البلدان العربية والإسلامية، على أقل تقدير، بناء سياساتها مع الولايات المتحدة من جديد، وعدم التسليم لقدر التماهي بينها وبين إسرائيل، وعلى الأقل هذا ما باتت تفعله الدول الأوروبية، بدليل التصويت في الأمم المتحدة، وجديدها أخيراً ما حصل في وقوف معظم دول الغرب تقريباً مع حق الفلسطينيين في إقامة دولة لهم، فيما لم يقف مع إسرائيل والولايات المتحدة في معارضة ذلك سوى ثماني دول. ورغم ذلك، تمضي إسرائيل في مشروعها، فإلى متى نمضي في الصمت، أو الخوف، أو انعدام الفعالية، كحكومات وكمجتمعات؟
المصدر: العربي الجديد