قيام دولة فلسطينية سيكون مفيدا لإسرائيل

ريتشارد هاس

فرصة حل الدولتين لا تزال قائمة، لكنها لن تدوم طويلاً

ملخص

الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وصل إلى نقطة اللاعودة مع تآكل فرص حل الدولتين بفعل توسع الاستيطان، تحولات السياسة الإسرائيلية بعد هجوم 7 أكتوبر، ورفض فلسطيني سابق للتسويات. لكن بقاء الاحتلال بلا نهاية أو حل الدولة الواحدة يهدد أمن إسرائيل، والدعم الدولي المقدم لها، واستقرار الأردن والمنطقة، فيما يظل قيام دولة فلسطينية أفضل الخيارات المتاحة لتحقيق السلام.

بعد مضي أكثر من نصف قرن على الحرب بين العرب وإسرائيل عام 1967 وصدور قرار مجلس الأمن رقم 242، الذي أرسى المبدأ القاضي بأن تتخلى إسرائيل عن الأراضي التي احتلتها في الحرب مقابل السلام والأمن، لم يحرز الإسرائيليون والفلسطينيون أي تقدم يُذكر، ناهيك بتحقيق تقدم دائم، في ما يتعلق بخلافاتهما الجوهرية.

لكن الوقت قد حان لتغيير هذا الوضع. فالفرصة الضئيلة المتبقية لإحراز تقدم نحو اتفاق دائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين يخدم مصالح الطرفين، آخذة في التلاشي بسرعة. فالعقبات السياسية والعملية أمام التسوية ستتجاوز قريباً نقطة اللاعودة.

إن إسرائيل، بفضل جهودها بالدرجة الأولى، تجد نفسها اليوم في بيئة أمنية مواتية، إذ إن التهديدات على حدودها وفي المنطقة قد أُضعفت بشكل كبير، أو حتى قضي عليها تماماً. ولم يسبق أن كانت البلاد في وضع أفضل للتعامل مع التحدي الإستراتيجي الذي تطرحه القومية الفلسطينية، وهو تحد يتطلب استجابة بأبعاد سياسية وعسكرية معاً.

غير أن هذه البيئة لا يمكن أن تدوم إلى الأبد. فعلى رغم أن إسرائيل تحظى بصديق في البيت الأبيض مستعد لتقديم دعم حيوي لها، فإن الدعم الأميركي والأوروبي على المدى الطويل ليس مضموناً، بخاصة إذا ازداد عدد الأميركيين والأوروبيين الذين ينظرون إليها كدولة مارقة تحرم الآخرين من حقوقهم.

إذاً، تواجه إسرائيل خياراً مصيرياً. فإما أن تبذل جهداً جاداً للتسوية والتعايش السلمي مع الفلسطينيين، أو أن تخاطر بفقدان الدعم الدولي الذي يتطلبه أمنها وازدهارها على المدى الطويل. وعلى رغم أن حل الدولتين أصبح مرفوضاً ومكروهاً بالنسبة إلى كثير من الإسرائيليين، فإنه لا يزال الأمل الأفضل لتحقيق أمنهم وازدهارهم. ولا شك في أن امتلاك الفلسطينيين دولة خاصة بهم سيكون أمراً جيداً لهم، لكنه سيكون مفيداً أيضاً لإسرائيل، بل إن المساعدة في إقامة دولة فلسطينية تحمل في طياتها إمكانية أن تخدم إسرائيل بقدر ما ستخدم غيرها.

مهمة عسيرة

اقترب الإسرائيليون والفلسطينيون أكثر من مرة من التوصل إلى اتفاق قائم على مبدأ الأرض مقابل السلام. لكن على مدى العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية، فشلت الدبلوماسية إلى حد كبير لأن القادة الفلسطينيين، ياسر عرفات، الرئيس السابق للسلطة الفلسطينية، وكذلك خلفاؤه، كانوا غير راغبين أو غير قادرين (بسبب ضعفهم السياسي) على قبول ما عرضته إسرائيل في ما يتعلق بالأراضي، ووضع القدس، وقدرة اللاجئين الفلسطينيين على العودة إلى ديارهم. أما معارضة “حماس” للسلام فكانت ولا تزال أشد جوهرية، لأنها تستلزم قبول الدولة اليهودية كجزء دائم من المنطقة.

وقد كانت تكاليف هذا الرفض الفلسطيني لحل الدولتين القائم على التسوية باهظة. إذ لا يزال أكثر من 5 ملايين فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية وقطاع غزة تحت السيطرة الإسرائيلية بدلاً من أن يديروا شؤونهم بأنفسهم. وأضحى التوصل إلى نتيجة دبلوماسية مماثلة لما رفضه القادة الفلسطينيون في الماضي أكثر صعوبة بكثير الآن.

العقبات السياسية والعملية أمام التسوية ستتجاوز قريباً نقطة اللاعودة

 

ويعود ذلك إلى حد كبير إلى تغير الوضع على أرض الواقع. فاليوم توجد عقبات كثيرة أمام السلام، وتحديداً نحو 140 مستوطنة مرخصة من الحكومة الإسرائيلية في الضفة الغربية (و200 بؤرة استيطانية أخرى غير مرخصة) يعيش فيها أكثر من 500 ألف إسرائيلي. وكل مستوطنة وبؤرة استيطانية تجعل تطبيق مبدأ الأرض مقابل السلام وبناء دولة فلسطينية قابلة للحياة أكثر صعوبة، فكل مستوطن إضافي يخلق مقاومة سياسية لمثل هذه التسوية ويزيد من التكاليف الاقتصادية لعملية نقل السكان.

علاوة على ذلك، تغيرت السياسة الإسرائيلية. فقد تراجعت الأحزاب السياسية اليسارية، بينما أصبحت الأحزاب اليمينية أقوى. وهذا التحول السياسي كان جارياً منذ عقود، لكنه تسارع بشكل كبير بعد الهجوم الوحشي الذي شنته “حماس” على إسرائيل في الـسابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. ومن الجدير بالذكر أن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الائتلافية، التي تعتمد على دعم ما يمكن وصفه بالتيار القومي الديني اليميني المتشدد، قد جسدت هذا التحول وأسهمت في تسريعه.

في الواقع، إن عدداً كبيراً من الإسرائيليين وأنصارهم حول العالم، حتى أولئك الغاضبين من سلوك نتنياهو في الحرب ومما يعتبره كثر هجوماً على الديمقراطية الإسرائيلية، أصبحوا يعارضون بقوة قيام دولة فلسطينية، خشية أن تتحول إلى قاعدة تنطلق منها الفصائل المسلحة لتنفيذ عمليات. ويجادل بعضهم بأن حل الدولتين سيؤجج الطموحات السياسية الفلسطينية بدلاً من أن يشبعها. فيما يعارض آخرون قيام دولة فلسطينية ليس لهذه الأسباب فحسب، بل أيضاً لأن أعينهم على غزة والضفة الغربية كمنطقتين للتوسع الاستيطاني اليهودي. وهكذا، تبين أن الفلسطينيين المتطرفين ليسوا وحدهم من يطمعون في كل ما يقع بين النهر والبحر.

ونتيجة لهذه التطورات وغيرها، أصبح الإعلان عن موت حل الدولتين بمثابة صناعة رائجة بذاتها. ولأسباب مفهومة، فإن هذا الحل في أفضل الأحوال، باقٍ على أجهزة الإنعاش.

الأمن على المدى الطويل

إن حل الدولتين لم يُدفن بعد. فالإسرائيليون والفلسطينيون سيكونون في وضع أفضل بوجود دولة فلسطينية قابلة للحياة ومستقلة وذات سيادة، يسكنها الفلسطينيون ويديرونها بأنفسهم، لكن على أساس شروط تمنعها من تشكيل تهديد أمني لإسرائيل.

فالدولة الفلسطينية، بدلاً من أن تكون قاعدة للإرهاب، ستكون على الأرجح وسيلة لتقليصه بطرق لا تستطيع القوات الإسرائيلية تحقيقها. والسبب أن الإرهابيين اليوم يستطيعون التحرك تقريباً من دون عقاب، إذ إنهم غير مسؤولين عن أي أرض أو اقتصاد، ولا يوجد لديهم مواطنون يحاسبونهم. في غياب دولة فلسطينية، من المرجح أن تواجه إسرائيل حرباً لا نهاية لها. وفي المقابل، فإن حكومة دولة فلسطينية ستتحمل العواقب العسكرية والاقتصادية لأية هجمات تُجيزها ضد إسرائيل، إذ ستُعتبر أعمال حرب لا إرهاب، وستتحمل أيضاً العواقب المترتبة على الهجمات غير المصرح بها المنطلقة من داخل حدودها، التي يُتوقع من حكومة ذات سيادة أن تمنعها.

هذا الواقع ينبغي أن يدفع حكومة مسؤولة، لا تديرها “حماس”، إلى التصرف بشكل بناء، مع توفير سبل لإسرائيل للرد إذا أثبت القادة الفلسطينيون عجزهم أو عدم رغبتهم في الوفاء بالتزاماتهم الدولية. وقد حظيت إسرائيل بدعم دولي لمثل هذا الرد في أعقاب السابع من أكتوبر مباشرةً. لكن إسرائيل فقدت ذلك التفهم والتعاطف خلال الفترة التي تجاوزت 22 شهراً، إذ إنها قتلت خلالها عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين وعرضت كثراً غيرهم لظروف قاسية للغاية.

إن الدعم الأميركي والأوروبي لإسرائيل على المدى الطويل ليس مضموناً

إضافة إلى ذلك، حل القضية الفلسطينية سيخلق سياقاً يمكن فيه لاتفاقات أبراهام، ولعملية السلام بين الدول العربية وإسرائيل بصورة عامة، أن تستمر وتتوسع. فالدول العربية ستتمكن من تبرير إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل أمام شعوبها إذا تمكنت من الإشارة إلى مسار يقود إلى إقامة دولة فلسطينية. وقد أوضح ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، أن ما يمنعه من السعي وراء علاقات أوثق مع إسرائيل هو رفض الأخيرة إعادة إطلاق عملية دبلوماسية تقوم على أفق حل الدولتين. وعلى نحو مماثل، فإن قيام دولة فلسطينية سيعزز استقرار جيران إسرائيل، ولا سيما الأردن، إذ إن تلبية الدعوة لإقامة دولة فلسطينية ستخفف الضغط على النظام الملكي الأردني، الذي كان مستعداً منذ زمن بعيد للعيش في سلام مع إسرائيل، لكنه قد يواجه اضطرابات داخلية في حال تدفق الفلسطينيون إلى المملكة وأخلوا بتوازنها الديموغرافي والسياسي. كما أن جعل القضية الفلسطينية أقل أهمية [أقل هيمنة في السياسة الإقليمية والدولية] سيسمح أيضاً للمؤسسة الأمنية القومية الإسرائيلية بالتركيز على التهديدات الملحة الأخرى، وعلى رأسها تلك التي تشكلها إيران.

إضافة إلى ذلك، فإن وجود دولة فلسطينية منفصلة سيكون جيداً لهوية إسرائيل وتماسكها الداخلي. فهناك نحو مليونَي مواطن عربي داخل إسرائيل، وقد يتجه بعضهم نحو التطرف إذا استمرت إسرائيل في إحباط الطموحات السياسية الفلسطينية ومعاملة الفلسطينيين بقسوة. والأهم من ذلك، فإن قيام دولة فلسطينية سيعفي إسرائيل من الاختيار بين أن تكون ديمقراطية أو أن تكون دولة يهودية: فمنح 5 ملايين فلسطيني حقوقاً متساوية سيهدد الطابع اليهودي للدولة، بينما حرمانهم من هذه الحقوق سيهدد طابعها الديمقراطي. ومن الواضح أن جميع المؤشرات تدل على أن إسرائيل تحرمهم من هذه الحقوق، وهو اتجاه لن يؤدي إلا إلى زيادة عزلتها الدولية.

ومن الجدير بالذكر أن الظهور بمظهر المنفتح على إقامة دولة فلسطينية سيساعد إسرائيل على تجنب صفة الدولة المنبوذة في العالم، وهي حقيقة تزداد زخماً كرد فعل على عملياتها العسكرية في غزة. كما أنه سيقلل من خطر العقوبات الاقتصادية الأوروبية ويحد من تنامي الشعور المتزايد بالنفور لدى عديد من الأميركيين، بمن فيهم الشباب من اليهود الأميركيين، وهو اتجاه قد يهدد مع مرور الوقت حتى الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل. وقد يؤدي انفتاح إسرائيل على هذه المسألة أيضاً إلى تقليص معاداة السامية على مستوى العالم.

وأخيراً، وهو الأمر الأكثر إلحاحاً، فإن تأييد قيام دولة فلسطينية من جهة المبدأ سيمنح إسرائيل طريقاً للخروج من غزة وفرصة لإعادة من تبقى من الرهائن. إن تحديد معالم طريق نحو حل الدولتين يُعد شرطاً مسبقاً لاستبدال بالقوات الأمنية الإسرائيلية قوة عربية لتحقيق الاستقرار، ولخلق منافسة لـ”حماس”، التي ستفقد احتكارها شبه المطلق لفكرة أنها الجهة الوحيدة القادرة على إقامة دولة للشعب الفلسطيني. وكما تعلم البريطانيون في إيرلندا الشمالية، لا يمكن هزيمة الجماعات المتطرفة بالقوة العسكرية وحدها، بل يجب أيضاً تهميشها سياسياً، من خلال توفير مسار دبلوماسي يَعِد بأكثر مما تعد به دوامة العنف المستمرة.

 القليل يغني عن الكثير

إن الرغبة في تحقيق نتيجة معينة هي شيء، لكن إمكان تحقيقها هو شيء آخر تماماً. لذا، ينبغي أن يكون التركيز الدبلوماسي المباشر متواضعاً، نظراً إلى الحقائق السياسية في إسرائيل وبين الفلسطينيين. أما أولئك الذين ما زالوا يؤيدون حل الدولتين، فينبغي أن يكون هدفهم في المستقبل القريب هو الحفاظ على إمكان الانخراط في دبلوماسية أكثر طموحاً وتهيئة الظروف التي تمنح مثل هذه الدبلوماسية فرصة للنجاح في يوم من الأيام.

في الواقع، ينبغي أن يكون لهذه السياسة بُعدان: أحدهما قائم على التجنب والآخر على البناء. في ما يخص الأول، يجب على الحكومات تفادي الدعوة إلى تقرير المصير الفلسطيني. وعلى غرار ما ورد في اتفاقيات كامب ديفيد التي ساعدت واشنطن في التوصل إليها وإبرامها بين مصر وإسرائيل عام 1978، يجب أن يكون للفلسطينيين الحق في المشاركة في تحديد مستقبلهم، ولكن ليس في إعلانه أو تقريره بشكل أحادي. ولا بد من أن تُنشأ الدولة الفلسطينية بالتوازي مع إسرائيل. فالتاريخ أثقل من أن يُتجاهل، والمساحة الجغرافية أضيق من أن تسمح بخيار آخر.

ويجب تجنب شكل آخر من الأحادية، وهو إعلان بعض الأطراف الخارجية المعنية، وتحديداً أستراليا وكندا وفرنسا والمملكة المتحدة، عن نيتها الاعتراف بدولة فلسطينية هذا الخريف إذا لم يتحقق وقف لإطلاق النار في غزة. فعلى رغم أن هذه القوى ترى أن خطواتها مفيدة، فإنها في الواقع ليست كذلك على الإطلاق. يجب على الإسرائيليين والفلسطينيين التوصل إلى تسوية، وعلى الفلسطينيين أن يستوعبوا أن دولة خاصة بهم، إذا سمحت إسرائيل بذلك، لن تُمنح لهم من الآخرين من دون تقديم تنازلات من جانبهم. ومما يزيد المشكلة تعقيداً أن خيار الاعتراف بدولة فلسطين يبدو الآن بمثابة مكافأة لـ”حماس” لا لجهة فلسطينية بديلة أكثر اعتدالاً.

وعلى نحو مشابه، يجب مقاومة الأحادية الإسرائيلية أيضاً. وهنا يقع العبء على عاتق الولايات المتحدة، لأن السياسة في إسرائيل، الناتجة من الائتلافات الحاكمة والتغييرات الديموغرافية وردود الفعل على أحداث مثل هجمات السابع من أكتوبر، تطورت بطريقة تجعل إسرائيل، إذا تُركت لشأنها، غير ملتزمة ضبط النفس. لذا، ينبغي على إدارة ترمب أن توضح معارضتها لبناء مستوطنات جديدة، وبؤر استيطانية جديدة، وأي ضم للأراضي الفلسطينية. كما يجب أن تُبلغ توقعاتها بأن يحترم المستوطنون ووحدات جيش الدفاع الإسرائيلي حقوق الفلسطينيين الإنسانية وحقوق ملكيتهم. وما قد يُضفي قوة حقيقية على هذا الموقف (وهو ما قاومته هذه الإدارة وسابقاتها إلى حد كبير) هو رسالة من واشنطن مفادها أن إسرائيل لن تستطيع، من الآن فصاعداً، الاعتماد على فكرة أن الولايات المتحدة ستستخدم حق النقض في مجلس الأمن لحمايتها من جميع العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية إذا تجاهلت التفضيلات الأميركية. ويمكن لواشنطن أيضاً فرض رسوم جمركية أعلى على إسرائيل إذا واصلت تقويض ما تبقى من فرص محدودة لقيام دولة فلسطينية. ومن الممكن للولايات المتحدة أن تميز بين دعمها لأمن إسرائيل ودعمها للاحتلال الإسرائيلي المفتوح وتمدده.

وفي الوقت نفسه، ينبغي على الولايات المتحدة والدول الأوروبية والسعودية وغيرها من الحكومات العربية أن تضغط نحو إنهاء الحرب في غزة واستبدال بقوات الاحتلال الإسرائيلية قوة عربية وفلسطينية لتحقيق الاستقرار، ويجب على تلك الحكومات أيضاً أن تطرح رؤية علنية لعملية دبلوماسية أوسع. ينبغي عليها توضيح ما تتوقعه من كل من الإسرائيليين والفلسطينيين، وما يمكن أن يتوقعه الطرفان في المقابل، وما هي على استعداد للقيام به لتشجيع العملية وتعزيز نتائجها. ويشمل ذلك تقديم ضمانات أمنية لإسرائيل ودعم اقتصادي لمساعدتها على إعادة توطين المستوطنين، وتزويد الدولة الفلسطينية الجديدة بما تحتاج إليه للوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها وتجاه إسرائيل. ولن يتطلب الأمر هنا أقل من التزام طويل الأمد ببناء الأمة، أو بشكل أدق، بناء الدولة.

من الناحية المثالية، قد يشجع ذلك على بروز قيادة فلسطينية أكثر اعتدالاً، مستعدة للحديث والتصرف بطرق تطمئن غالبية الإسرائيليين، وهو ما قد يشجع بدوره على ظهور قيادة إسرائيلية أكثر اعتدالاً. وما يتبادر إلى الذهن هنا هو أثر مبادرة الرئيس المصري أنور السادات تجاه الإسرائيليين بعد أربعة أعوام فقط من هجوم مصر على إسرائيل في حرب 1973، التي أقنعت الإسرائيليين بأن لديهم شريكاً جديراً بالثقة، مما برر لهم إخلاء المستوطنات وإعادة الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967. أما الشروط الدقيقة للدولة الفلسطينية فسيتم تناولها والتفاوض بشأنها لاحقاً على يد جيل جديد من القادة الإسرائيليين والفلسطينيين.

من المستحيل وصف مسار مثل ذاك المذكور أعلاه بتفاؤل، بالنظر إلى واقع الأطراف المعنية اليوم وكيف وصلت إليه. لكن هناك بعض الأسباب تدعو للأمل. أحدها هو الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي يرى نفسه صانع سلام، ويجد نفسه في موقع يمكنه من أن يكون كذلك. في الحقيقة، يتمتع ترمب بشعبية في إسرائيل، ويحظى بدعم عديد من اليهود الأميركيين الذين يعرفون أنفسهم بأنهم مؤيدون بشدة لإسرائيل. وينطبق الأمر ذاته على المسيحيين الإنجيليين. وفي بعض الجوانب، تشبه مكانة ترمب مكانة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون. فقد تمكن نيكسون من مد يده إلى الصين الشيوعية، إلى حد كبير، لأنه خلافاً لغيره من الرؤساء الأميركيين الذين ربما أرادوا ذلك، لم يكن مضطراً إلى مواجهة نيكسون نفسه [أي إن الرؤساء الآخرين الذين ربما أرادوا تحسين العلاقات مع الصين كانوا يخشون نيكسون نفسه، لأنه كان سيهاجمهم باعتبارهم ضعفاء أو غير وطنيين].

والأمر ذاته ينطبق على ترمب في ما يخص إسرائيل. فإبرامه لاتفاقات أبراهام، ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، واعترافه بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، وأخيراً قصفه مواقع إيران النووية، كلها أمور تحصنه من الانتقادات وتمنحه نفوذاً لم يحظ به إلا قلة من أسلافه، إن كان هناك من حظي به أساساً. ومن غير المرجح أن يتمكن أي ديمقراطي من استغلال حجة أن ترمب سيبيع إسرائيل من خلال الضغط عليها، لأن كثراً في الحزب الديمقراطي يريدون منه أن يفعل ذلك بالضبط. إضافة إلى ذلك، فإن الدفع الأميركي الفعال نحو السلام من شأنه أن يُعزز مكانة الولايات المتحدة حول العالم، ومكانة رئيسها. والقرار يعود إليه.

وثمة سبب آخر يدعو إلى الأمل هو أن العالم العربي مستعد لصنع السلام مع إسرائيل. فقد فعلت ذلك حكومات عدة بالفعل، والسعودية مستعدة للمضي قدماً. وهناك أيضاً “إعلان نيويورك”، الذي جاء نتيجة مؤتمر أممي ترأسته السعودية وفرنسا في شأن حل الدولتين في أواخر يوليو (تموز) الماضي، وتضمنَ، من بين أمور أخرى، دعوة “حماس” إلى إنهاء حكمها في غزة وتسليم أسلحتها إلى السلطة الفلسطينية. ويبرز الإعلان إلى أي مدى تطور العالم العربي في استعداده للعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل.

وأخيراً، هناك الوضع السياسي المتقلب في إسرائيل. في الواقع، إن عدد الإسرائيليين الذين يحتجون على إضعاف المحاكم والديمقراطية في بلادهم، والذين يدعون في الآونة الأخيرة إلى إنهاء الحرب في غزة وإعادة الرهائن، يشير إلى أن إرث رئيس الوزراء الراحل إسحاق رابين، الذي سعى إلى تقديم تنازلات مدروسة من أجل السلام، لا يزال قوة فاعلة في السياسة الإسرائيلية.

الآن هو الوقت المناسب

إن إقامة دولة فلسطينية ستتطلب مساعدة من الولايات المتحدة وأوروبا والدول العربية. والأهم من ذلك، أنها ستتطلب أن يُظهر الفلسطينيون بالأقوال والأفعال استعدادهم للعيش بسلام مع إسرائيل. وإذا كانوا مستعدين لذلك، فهناك فرصة لأن تتطور السياسة في إسرائيل، ناهيك بأن تل أبيب ستكون مُلزمة بالرد بحسن نية.

ومن الممكن بالطبع ألا تجد إسرائيل شريكاً دبلوماسياً بين الفلسطينيين، الذين يعانون انقسامات سياسية عميقة. وإذا كان الأمر كذلك، أي إذا لم يكن الفلسطينيون مستعدين لرفض حركة “حماس” واعتناق الاعتدال والاستعداد للتسوية، فإن إسرائيل ستكون أقل عرضة لأن يُنظر إليها، كما هي الحال الآن، على أنها العقبة الرئيسة أمام السلام. وستتجنب بعض الانقسامات الداخلية وكذلك السخط الإقليمي والدولي الموجه إليها. وبالطبع، ستظل إسرائيل مضطرة إلى التعامل مع العواقب الداخلية الناجمة عن وجود أكثر من 5 ملايين فلسطيني تحت سيطرتها، كما سيكون عليها التعامل مع الفلسطينيين بأسلوب أكثر إنسانية ومسؤولية بكثير مما قامت به أخيراً في غزة والضفة الغربية. ومع ذلك، ستكون في وضع أفضل بالمجمل.

ولن تحل الدولة الفلسطينية جميع المشكلات. وهنا يتبادر إلى الذهن صياغة مختلفة بعض الشيء لقول ونستون تشرشل الشهير عن الديمقراطية: إنها “أسوأ أشكال الحكم باستثناء جميع الأشكال الأخرى التي جُرِبت من وقت لآخر” [أي إنها أسوأ أشكال الحكم لكنها تظل أفضل من أي نظام آخر جُرب من حين لآخر]. وقد يقول المتشائم الشيء نفسه عن حل الدولتين، إنه أسوأ شكل من أشكال التسوية الدبلوماسية، باستثناء كل البدائل الأخرى [أي إنه يظل أفضل من البدائل الأخرى].

في غياب دولة فلسطينية، من المرجح أن تواجه إسرائيل حرباً لا نهاية لها

 

أياً كانت أخطاره وعيوبه، فإن حل الدولتين سيترك إسرائيل في وضع أفضل من البدائل الأخرى. فالوضع الراهن المتمثل في الاحتلال المفتوح بلا نهاية قد يدفع إسرائيل إلى الانحدار أكثر نحو التحول إلى دولة منبوذة على الصعيد الدولي. وستواجه إسرائيل إرهاباً متواصلاً من شعب شعر أنه ليس لديه ما يخسره. علاوة على ذلك، فإن الترحيل القسري لملايين الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية سيكون له الأثر نفسه، وربما يزعزع استقرار الأردن وجيران آخرين، مهدداً السلام الذي تتمتع به إسرائيل مع تلك الدول العربية التي سعت إليه. أما الحل القائم على دولة واحدة، حيث يصبح الفلسطينيون مواطنين إسرائيليين، فسيهدد الطابع اليهودي لإسرائيل أو حكمها الديمقراطي، أو كليهما معاً.

وقد قال آبا إيبان، وزير الخارجية الإسرائيلي المثقف في زمن صراعَي البلاد مع جيرانها العرب في عامي 1967 و1973، عبارة شهيرة ذات مرة مفادها أن العرب، عندما يتعلق الأمر بصنع السلام، لا يفوتون فرصة لتفويت الفرصة. وقد كان محقاً. لكن اليوم، ينطبق هذا القول على إسرائيل أيضاً، فلم يسبق لها في تاريخها أن كانت أكثر أماناً من التهديدات الخارجية. فهي في سلام مع مصر والأردن، وكذلك مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين. وقد أضعفت بشكل كبير وكلاء إيران في المنطقة، وعلى رأسهم “حزب الله” في لبنان. كما أن إيران والعراق وسوريا جميعها ضعيفة نسبياً. أما السعودية، أغنى دولة عربية، والمتمتعة بمكانة فريدة في العالم الإسلامي، فقد أشارت إلى استعدادها لتطبيع العلاقات إذا أظهرت إسرائيل استعدادها لتلبية المطالب الوطنية الفلسطينية ضمن شروط معقولة. واستكمالاً، فلدى إسرائيل صديق مخلص في البيت الأبيض.

يتعين على الولايات المتحدة أن تترجم إرثها كأقرب صديق لإسرائيل إلى واقع ملموس. وعلى صنّاع السياسات والمواطنين الأميركيين أن يدركوا أن ما يُعتبر اليوم موقفاً مؤيداً لإسرائيل قد ينظر إليه التاريخ على نحو مغاير. فمن مصلحة إسرائيل والولايات المتحدة معاً السعي إلى إقامة دولة فلسطينية قبل أن تتلاشى هذه الإمكانية إلى الأبد. فالأمر بالمعنى الحرفي هو: الآن وإلا فسيفوت الأوان.

 

مترجم عن “فورين أفيرز” 3 سبتمبر (أيلول)، 2025

ريتشارد هاس هو الرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية وكاتب نشرة إخبارية أسبوعية بعنوان في الديار وفي الخارج Home & Away على منصة ” سابستاك”.

المصدر: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى