
انقضت عليه سنتان مراوحاً في وحول غزّة ووسط أنقاضها، ولا يني سفّاح الأزمنة الحديثة، نتنياهو، يبيع شعبه أوهاماً وأحلاماً توراتية خرافية بالية، بغية ضخّ معنوياتٍ جديدة في نفوس قومه وأتباعه وأشباهه من جمهور اليمين المتعصّب المسعور، بعدما فقدوا الكثير من معنوياتهم أخيراً، واختُرق جدار كيانهم الحديديّ الجابوتنسكيّ، من أكثر من جانب وعلى أكثر من جبهة، وشعروا جدّياً بالتهديد الوجوديّ، وانهمرت الصواريخ من كل نوع، صغيرة ومتوسّطة وبالستية فرط صوتية شديدة التدمير، فوق رؤوسهم، وأنزلتهم إلى الملاجئ بالملايين، وهدمت لهم مستوطناتٍ في الجليل وإنشاءات وأبنية وقواعد عسكرية في داخل الكيان. لذا، كان لا بدّ لبائع الأوهام “بيبي” من بيعهم وعوداً وعهوداً جديدة تنتشلهم من الإحباط والانحطاط المعنوي والخوف على مصير كيانهم المحتلّ، الفاقد، منذ نشأته، شرعيّة وجوده، فكان الوعد الخنفشاري بـ”إسرائيل الكبرى”.
في الوقت عينه، خاطب نتنياهو الوعي العربي بمشروعه الواهم هذا، بغية كيّ هذا الوعي وإخافته والتهويل عليه، بل الإيحاء لشعوب المنطقة المعنية بخريطة حلم إبليس بالجنّة أنّ المسمّاة “إسرائيل” لا تزال قوية ومقتدرة ومتفوّقة، وفي الوسع أن تحتلّ وتتمدّد وتضمّ مزيداً من الأراضي لتكمل الحلم التوراتيّ بـ”إسرائيل الكبرى”، فوقع عرب كثر، وبعضهم من النخب، في فخ التهويل النتنياهويّ، في حين أن مطلق المشروع ـ الحلم أعجز من تحقيق جزءٍ يسير منه وقدماه غارقتان في وحول غزّة.
لا يفيد “إسرائيل” أن تكون مقبولة من بعض الحكام العرب، طالما أن شعوبهم ضدّها
مجموعة من الحقائق يجب أن يدركها الإنسان العربي في مسألة “إسرائيل الكبرى” المطروحة شعاراً للتهويل والتضليل، فالبراغماتية الإسرائيلية نفسها اختارت، منذ نشأة الكيان الإحلاليّ الغاصب، “التوسّع الذكي المحدود” (القدس، الضفة الغربية، الجولان) وعدم الدخول في مغامرات تمدّد كبرى، وبقي مشروع “إسرائيل الكبرى” على مرّ العقود يستخدم خطاباً رمزيّاً دينيّاً أيديولوجيّاً، وليس خطة سياسية قابلة للتحقيق. وكان همّ الكيان باستمرار التموضع ضمن مساحة أصغر، محميّة بقوة عسكرية ضخمة قوامها كلّ الشعب الإسرائيلي، ومتفوّقة نوعياً في السلاح والتكنولوجيا والاستخبارات، مع الاكتفاء باستيطان نوعيّ في الضفة الغربية والقدس حيث يمكن ضمان السيطرة الديموغرافية والعسكرية، أي تفضيل “إسرائيل الصغرى القوية” جغرافياً بحدود ضيقة نسبياً، وقومياً بحيث يتمّ الحفاظ على أغلبية يهودية صلبة داخل هذه الحدود، وعسكرياً مع جيش قادر على الانتشار في مساحة محدودة وتوجيه ضربات استباقية، واقتصادياً من خلال الاعتماد على القطاع التكنولوجي وتصنيع السلاح والزراعات الحديثة، وإقليمياً بواسطة الاختراق السياسي والمالي والاقتصادي لدول الجوار عبر التطبيع والتحالفات، على طريقة اتفاقيات أبراهام مثالاً. فبدلاً من احتلال الأردن ولبنان وسورية وأجزاء من مصر والسعودية (بحسب خريطة “إسرائيل الكبرى” المطروحة شعاراً قديماً متجدّداً) يعمل الكيان الصهيونيّ على الاختراق السياسيّ والاقتصاديّ والأمنيّ للدول العربية، ويدعم، في الوقت نفسه، الصراعات الأهلية في المحيط المباشر أو ما تسمّى دول الطوق (سورية، لبنان، العراق) ليبقى الكيان في حالة الاستقرار والقوة، كما يعتمد أسلوب “الهيمنة الناعمة” عبر التكنولوجيا و”الهاي تك” والأمن السيبراني والتسلّل الدبلوماسي من خلال تشجيع التحالف بين الغرب ودول الخليج النفطية والغازية الثرية، بغية تقاسم مغانم السطو الخبيث والخطير على مقدّرات هذه البلدان وثرواتها تحت عنوان الشراكة والانفتاح والمشاريع المشتركة.
دمج مزيد من الفلسطينيين والأقليات في المنطقة يهدّد الأغلبية اليهودية في هذه “الإسرائيل الكبرى” المتخيّلة
لماذا “إسرائيل الكبرى” مجرّد شعار ووعد تهويليّ معنويّ أطلقه نتنياهو لطمأنة الأصدقاء وترهيب الأعداء؟ لأن الديموغرافيا تلعب ضدّه، ومقاومات الشعوب مهما أُرهبت أو تلقّت من ضربات بسلاح أميركي، سوف تظلّ إلى الأبد مصدر عدم استقرار وثبات للمحتلّ في أرض عربية، فالتوسع الجغرافي مستحيل للصهاينة المكروهين والممقوتين والمرفوضين في ظل واقع عربي ـ إسلامي معادٍ بالمطلق شعبياً، ولا يفيد “إسرائيل” أن تكون مقبولة من بعض الحكام العرب، طالما أن شعوبهم ضدّها. كما أن فرض سيطرة دائمة على مساحات كبرى من الأرض يستلزم موازنات ضخمة للجيش والبنى التحتية، وإذا كان نتنياهو احتاج لفعله الإباديّ إلى تجنيد الحريديم، فمن أين يأتي بجيوش جرّارة لتغطية أراضي “إسرائيل كبرى” يعد بها مراوغاً ومنافقاً. أضف أن دمج مزيد من الفلسطينيين والأقليات في المنطقة يهدّد الأغلبية اليهودية في هذه “الإسرائيل الكبرى” المتخيّلة، والعمق الجغرافي لا يبقى ضمانة للأمن، وتكلفة تغطية مساحات بهذا الحجم أمر مستحيل وغير مستدام، ومشروع مماثل يزيد في عزلة “إسرائيل” دولياً، وقد بدأت هذه العزلة بسبب الإبادة في غزّة، وسيواجه برفض من قوى إقليمية ودولية عديدة.
البضاعة التي يحاول نتنياهو بيعها (أو التهويل بها) مردودة إليه. “إسرائيل الكبرى” حلم تاريخيّ بائد، بلا أساس عمليّ، وعدٌ إبليسيّ خائبٌ بالجنة.
المصدر: العربي الجديد