إشكالية الأولوية.. الأمن أم إعادة البناء في سوريا

د. طلال المصطفى

منذ سقوط النظام السوري السابق بتاريخ 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، برزت الإشكالية المركزية في النقاش التنموي العام السوري: أيهما يأتي أولًا – الأمن أم إعادة البناء؟ هل يمكن لسوريا أن تنطلق في مشاريع الإعمار من دون استقرار أمني؟ أم أن الأمن ذاته لا معنى له إذا لم يُترجم إلى تحسين ملموس في شروط الحياة؟

هذه الإشكالية ليست في سوريا فقط، فقد عرفتها دول عديدة خرجت من نزاعات عسكرية مثل لبنان والعراق والبوسنة ورواندا وغيرها، لكنها في سوريا تبدو أعقد، بسبب حجم الدمار المادي وعمق الانقسام المجتمعي وفقدان رأس المال البشري. وهنا السؤال الرئيس: كيف يمكن كسر الحلقة المفرغة بين الأمن والتنمية؟

الأمن .. شرط رئيس لإعادة البناء

الأرقام وحدها تكشف فداحة الوضع الاقتصادي السوري: الناتج المحلي انكمش بأكثر من 50%، والخسائر الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة فاقت 100 مليار دولار، بحسب تقارير الأمم المتحدة. أكثر من 70% من البنية التحتية للكهرباء دُمّرت، ونصف المدارس والمستشفيات خرجت عن الخدمة. وبالتالي في مثل هذه البيئة، أي حديث عن إعادة إعمار بلا أمن هو مغامرة محفوفة بالمخاطر.

فالمستثمرون السوريون والأجانب لا يغامرون بأموالهم وسط الفوضى الأمنية، والمجتمع الدولي لن يضخ المساعدات في بلد يفتقر إلى استقرار سياسي وأمني. والتجارب الدولية تدل على ذلك: ففي البوسنة والهرسك لم تنطلق عملية إعادة الإعمار إلا بعد تثبيت اتفاق دايتون الذي أوقف الحرب وأوجد حدًا أدنى من التوازن الأمني. أما في العراق بعد 2003، فرغم موارد النفط الهائلة، ظل الاستثمار محدودًا لأن هشاشة الوضع الأمني أجهضت أي محاولة جادة للتنمية.

باختصار، تحقيق الأمن في سوريا ليس رفاهية أو خيارًا مؤجلًا، بل هو شرط أساسي لانطلاق أي مسار تنموي.

إن الأمن الذي لا يقترن بتنمية اجتماعية واقتصادية يصبح مجرد “أمن سلطوي” قصير العمر.

الأمن.. لا يُختزل في البعد العسكري

رغم مركزية الأمن، إلا أن اختزاله في البعد العسكري قد يكون وصفة لتجدد العنف في المستقبل. فسلام هش يقوم على القمع أو توازنات القوى العسكرية الآنية لا يمكن أن يستمر إذا ظل المجتمع غارقًا في الفقر والحرمان.

في سوريا، يعيش نحو 90% من السكان تحت خط الفقر، في حين تبلغ البطالة 75%. وفي مثل هذه الظروف، يصبح الأمن هشًا بطبيعته؛ إذ لا يمكن إخضاع مجتمع محروم بالقوة إلى ما لا نهاية.

التجارب الدولية أثبتت هذه الحقيقة: في لبنان بعد الحرب الأهلية، جرى ضخ مليارات الدولارات لإعادة إعمار بيروت، لكن غياب إصلاح سياسي واجتماعي جعل “الأمن” هشًّا، قائمًا على توازنات طائفية سرعان ما انهارت مع كل أزمة. وفي العراق، أدى غياب التنمية الشاملة إلى عودة العنف، رغم وجود قوات أمنية قوية نسبيًا. بالمقابل، في رواندا استطاع النظام الجمع بين بسط الأمن وتعزيز التنمية السريعة، ما أعاد الثقة تدريجيًا للمجتمع، حتى وإن ظل نموذجها مثيرًا للجدل من زاوية الحريات السياسية.

خلاصة القول: إن الأمن الذي لا يقترن بتنمية اجتماعية واقتصادية يصبح مجرد “أمن سلطوي” قصير العمر.

نحو مفهوم “الأمن التنموي

سوريا اليوم عالقة في حلقة مفرغة: غياب الأمن يعيق إعادة البناء، وغياب إعادة البناء يقوّض الأمن. هذه المعضلة واجهتها دول عدة، لكنها في سوريا أشد تعقيدًا بسبب حجم النزوح (أكثر من نصف السكان بين نازح ولاجئ)، وفقدان جزء كبير من الرأسمال البشري.

في البوسنة، كُسر هذا المأزق عبر ترتيبات دولية فرضت السلام، بالتوازي مع خطة إعادة إعمار مدعومة من الاتحاد الأوروبي. أما في رواندا، فكان الحل عبر “أمن تنموي” شديد المركزية، ركّز على تحسين الخدمات وفرص العمل بالتوازي مع ضبط أمني صارم. بينما التجربة العراقية قدّمت مثالًا عكسيًا على فشل مقاربة “الأمن أولًا” من دون تنمية شاملة.

الحل في سوريا لا يكمن في الاختيار بين الأمن أو إعادة البناء، بل في صياغة مقاربة تدمج بينهما: الأمن التنموي.

هذا يعني إعادة بناء المؤسسات الأمنية على أسس وطنية جامعة، غير طائفية أو فئوية، مع إطلاق مشاريع إعمار تركّز على القطاعات الأكثر تأثيرًا في حياة الناس: الصحة، التعليم، وفرص العمل.

التجربة الرواندية تقدّم درسًا مهمًا: التنمية السريعة – حتى لو بدأت بمشاريع محدودة – يمكن أن تعزز الاستقرار وتعيد الثقة. أما التجربة اللبنانية فتنبه إلى أن إعادة الإعمار من فوق، لصالح النخب، من دون إصلاحات بنيوية، قد تؤدي إلى إعادة إنتاج الانقسام بدلًا من تجاوزه. وهذا يستدعي إعادة تعريف مفهوم الأمن نفسه: من “أمن السلطة” إلى “أمن المواطن”، حيث تصبح الأولوية حماية الأفراد وحقوقهم، لا حماية نظام الحكم.

السوريون يمتلكون موارد بشرية ومادية كافية، لكن شرطها إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وتوفير بيئة قانونية شفافة تكافح الفساد وتحمي الملكية.

التمويل والدعم الدولي: رهانات مشروطة

تتراوح تقديرات تكلفة إعادة الإعمار بين 400 و900 مليار دولار، وهو مبلغ يتجاوز قدرة سوريا الذاتية، ما يجعلها مرتهنة للدعم الخارجي. غير أن هذا الدعم لن يُمنح بلا مقابل، بل سيُربط بالمسار السياسي وضمان عدم عودة الاستبداد.

في البوسنة، ارتبطت المساعدات الأوروبية بآليات دمج سياسي ومؤسساتي بين المكونات المجتمعية. وفي العراق، قُدّمت المساعدات مشروطة بإصلاحات لم تتحقق، ما جعل الاستثمارات محدودة الأثر. هذا يعني أن أي دعم لسوريا سيكون مشروطًا بمسار سياسي واضح يضمن انتقالًا نحو حكم أكثر شمولية وقبولية من السوريين كافة.

في المقابل، يجب أن يُستنهض الدور المحلي: السوريون يمتلكون موارد بشرية ومادية كافية، لكن شرطها إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وتوفير بيئة قانونية شفافة تكافح الفساد وتحمي الملكية.

أي مستقبل ينتظر السوريين؟

المسارات المحتملة أمام سوريا يمكن اختصارها في سيناريوهين:

  1. استقرار أمني بلا تنمية: أي سلطة تفرض الأمن بالقوة، من دون إعادة بناء حقيقية. قد يوفر هدوءًا مؤقتًا لكنه يعيد إنتاج الانفجار.
  2. أمن وتنمية متوازيان: خطوات أمنية ترافقها إصلاحات تنموية تدريجية تركّز على الخدمات الأساسية. هذا وحده ما يفتح الطريق إلى استقرار مستدام، شرط أن يترافق مع إرادة سياسية لإشراك المجتمع وإصلاح جوهري لطبيعة الحكم.

الإعمار الحقيقي يبدأ بالإنسان

الحديث عن أولوية الأمن أو إعادة البناء بمعزل عن الآخر ليس إلا وهمًا سياسيًا. فسوريا لن تستعيد أمنها ما دام أكثر من 20 مليونًا من سكانها تحت خط الفقر، ولن تنهض اقتصاديًا ما دامت غارقة في دوامة العنف. الإعمار الحقيقي لا يبدأ بالإسمنت والحديد، بل يبدأ بالإنسان: بضمان أمنه وكرامته، وببناء دولة تحميه لا تستبد به. عندها فقط يصبح الحديث عن إعادة الإعمار واقعيًا، وعندها فقط يمكن للأمن أن يستدام.

إن التجارب الدولية تُعلّمنا أن الأمن الذي لا يقوم على التنمية زائل، والتنمية التي لا تُبنى على أمن شامل لن تستمر. وفي سوريا، قد تكون البداية الأصعب، لكنها أيضًا الأكثر وضوحًا: لا أمن بلا إعادة بناء، ولا إعادة بناء بلا أمن، وكلاهما بلا سياسة سوريا جامعة مجرد سراب.

 

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى