السويداء: فخّ إسرائيل الذي ارتدّ عليها وقوّى الشرع

بشر كناكري

ما إن وصل أحمد الشرع إلى دمشق حتى استعجلت صحف ومراكز دراسات إسرائيلية القراءة وقدمت الزعيم الشاب كفرصة تاريخية ستقود دمشق إلى التطبيع مع تل أبيب، مستندةً إلى براغماتيته وجذوره الجولانية وخلفيته الإسلامية التي تمنحه شرعية شعبية تكفي لتسويق أي اتفاق.
وبعد توليه السلطة تصاعدت الضغوط الإقليمية على الشرع “الضعيف” لإبرام صفقة سلام شامل والانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية مقابل الدعم الاقتصادي ورفع العقوبات عن بلاده. لكن ما لم تدركه تل أبيب وحلفاؤها آنذاك هو أن الشرع كان لديه خطط أخرى.

قواعد اشتباك جديدة

منذ اللحظة الأولى، كان واضحًا أن أي مواجهة مباشرة مع إسرائيل ستعني انهيار النظام الجديد. لذلك اختار الشرع طريقًا غير متوقع: المهادنة الدبلوماسية مع التحرش الميداني غير المباشر عبر ضرب الأذرع واستخدام التكتيكات الرمادية حتى تحقيق غاية في نفس أحمد.

إسرائيل، التي حسبت أنها أمام قيادة ضعيفة، اكتشفت سريعًا أنها أمام رجل يعرف كيف يناور وكيف يحوّل نقاط ضعفه إلى أوراق قوة. في شباط 2025 قال لي معارض سوري مرتبط بإسرائيل ويقيم في الخارج:“ثبت لإسرائيل أنه لا ينبغي لها الثقة بالشرع.. لن تثق به ولن تسمح بوجوده على حدودها.”

السويداء وانهيار سقف أبراهام

ارتكبت القوات الحكومية والمقاتلون المحسوبون عليها انتهاكات واسعة النطاق في السويداء، أقرت الحكومة بحدوثها في حين بدا وكأنه تجسيد حرفي لسياسة “اليدان المتسختان”،
أي القيام أو غضّ النظر عن القيام بممارسات غير قانونية وغير أخلاقية لهدف سياسي كبير، ثم الاعتراف بالأخطاء وعدم تبريرها بل ومحاسبة مرتكبيها.

سياسيًا، فإن ما حسبته إسرائيل فخًا محكمًا للشرع في السويداء انقلب إلى كارثة استراتيجية عليها، إذ اضطرت إلى التدخل لحماية أذرعها وتمادت حتى قصفت هيئة الأركان وقصر الشعب للمرة الأولى في تاريخها.

لكنها، في الواقع، كانت تمنح الرئيس السوري فرصة قلب الطاولة، إذ نفذ الشرع مناورة حاسمة تجسدت في خطاب 17 يوليو، حين استخدم لأول مرة مصطلح “الكيان الإسرائيلي” واضح الدلالات في الأدبيات العربية.
كما لوّح بالحرب ووضع الإسرائيليين أمام أكبر مخاوفهم: “الحرب المفتوحة”. نجا الشرع من وصمة سلام منفرد تاريخية، وأعلن مسارًا حصريًا وواضحًا: لا سلام ولا إبراهام، سقف تفاوضنا محدود بتفاهمات أمنية وفضّ للاشتباك لا أكثر.

مكاسب جانبية: وحدة والتفاف

في خطابه الذي لم يتجاوز السبع دقائق، كرر الشرع لفظ “الوحدة” سبع مرات حتى بدا أنه الثيمة الرئيسية للخطاب.
وتلك ليست صدفة، فلا شيء وحّد السوريين منذ قيام دولتهم كما وحّدهم العداء لـ”الكيان”.
وإسرائيل، التي أصبحت قبل عقد بالنسبة لبعض السوريين “عدوًا مفيدًا” يضعف نظام الأسد، عادت بما اقترفت إلى صورتها الكلاسيكية كعدو وجودي. والوحدة ضد إسرائيل هنا هي بالضرورة مزيد من الالتفاف حول أحمد الشرع.

العلويون وتبديد الاحتقان

العلويون، الذين ارتبط اسمهم بالنظام البائد، وجدوا في الاعتداء الإسرائيلي سببًا للعودة إلى الفضاء الوطني، إذ برزت أصوات وازنة من الساحل تعلن وقوفها مع الدولة الجديدة ضد “الغطرسة الإسرائيلية”. تبع ذلك صدور تقريري اللجنتين الوطنية والدولية للتحقيق في انتهاكات الساحل ووعود حكومية بمحاسبة المتورطين فيها. هذان التطوران خرقا الاحتقان الشعبي المزمن نسبيًا، وأدّيا إلى ما يشبه التسوية الضمنية التي قد تشكل خطوة كبيرة على طريق عزل الفلول والذهاب إلى مصالحة شاملة بين حكومة الشرع وجمهورها من جهة، والمكوّن العلوي من جهة أخرى.

العشائر وسحب البساط من تحت “قسد

الحدث الأخطر، الذي تسبب به انسحاب القوات الحكومية تحت الضغط الإسرائيلي من السويداء، كان زحف عشرات آلاف مقاتلي العشائر نحوها بهدف معلن هو كسر الحصار عن أبناء عمومتهم فيها.

وبغضّ النظر عن وجود دور مباشر للحكومة في حشدهم من عدمه، فإن الشرع أثنى على “فزعتهم” وقدمها كرسالة حاسمة:

هذه القوة العربية المشتتة التي لطالما فككها الأسد واستندت إليها “قسد”، هي عمقي وصارت اليوم تحت إمرتي. أستطيع أن أخوض بها حربًا هجينة لم يعرفها الإقليم من قبل.

فحين ضُغطت دمشق هبّوا، وحين أمرهم بالانسحاب انسحبوا، مثبتين أن ولاءهم للدولة الجديدة يتجاوز أي ارتباطات سابقة. وبطبيعة الحال، فإن نسبة كبيرة من مقاتلي العشائر المقصودين كانوا من محافظات الجزيرة السورية.
التقطت “قسد”، التي ما زالت تستولي على المنطقة هناك، الرسالة وأدركت خطورة الموقف، فسارعت إلى عقد مؤتمر الحسكة لـ”المكونات، لكنها فشلت في استقطاب معظم زعماء العشائر الذين يشكل مقاتلوهم عماد قوتها البشرية.

الإقليم يعيد الحسابات

السويداء لم تغيّر الداخل السوري فقط، بل حركت الإقليم كله. فالسعودية وتركيا رأتا في المشروع الإسرائيلي في الجنوب السوري خطرًا مباشرًا على أمنهما القومي، إذ إنه لا يعزل سوريا عن عمقها العربي فحسب، بل يمنح إسرائيل وعملاءها السيطرة على معظم الحدود السورية–الأردنية وتحويلها إلى منصة انطلاق باتجاه مدينة الأزرق الأردنية القريبة من الحدود السعودية، والتي تقطنها أقلية درزية.

كما أنه سيمهد الطريق أمام ما يسمى ممر داوود، الذي يتيح لإسرائيل الوصول إلى الجزيرة السورية ويكرّس الحالة الانفصالية “القَسَدية” على الحدود التركية. هذه المخاوف الجدية دفعت السعودية وتركيا للإسراع في تكثيف الدعم لدمشق، فسارعت المملكة إلى دعم دمشق سياسيًا بغطاء اقتصادي، وانخرطت تركيا في دعم وتدريب والمساعدة في إعادة هيكلة الجيش والقوى الأمنية السورية.

قلب الطاولة

إسرائيل أرادت جرّ الشرع إلى سلام إذعان، لكنه قلب الطاولة وخرج من فخها بالمزيد من الصلابة السياسية والوحدة الداخلية والاحتضان الإقليمي. فهمت إسرائيل المعادلة الجديدة وأعادت تقييم سلوكها على أساسها، لكن التقدير الصحيح للموقف ما زال غائبًا عن أطراف محلية ما زالت تعتقد أن بإمكانها الاستقواء بها.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى