حل جماعة الإخوان المسلمين في سوريا.. دعوة صحيحة في توقيت خاطئ

ماهر حسن شاويش

أثار مقال الدكتور  أحمد موفق زيدان في موقع الجزيرة، الذي دعا فيه إلى حل جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، نقاشًا واسعًا بين السوريين، بين من وجد فيه خطوة نحو التخلص من عبء تاريخي أثقل الحياة السياسية لعقود، وبين من رآه إشارة خطيرة على استمرار منطق الإقصاء حتى في ظل مرحلة يفترض أنها انتقالية.

جماعة وذاكرة دامية

الجماعة التي وُلدت في أربعينيات القرن الماضي، كانت في وقت من الأوقات أحد أعمدة العمل السياسي والاجتماعي في المدن السورية الكبرى، خصوصًا حماة وحلب ودمشق. لكنها دخلت في صدام دموي مع السلطة البعثية في أواخر السبعينيات، ودفعت ثمنًا باهظًا في مجزرة حماة مطلع الثمانينيات حين سُوّيت المدينة على ساكنيها تقريبًا، وصدر بعدها القانون 49 الذي يحكم بالإعدام على كل من ينتمي إلى الإخوان. منذ ذلك الحين، غابت الجماعة قسرًا عن الداخل، وعاشت عقودًا منفى طويلًا أنتج جيلًا منفصلًا عن واقع الداخل السوري وتحدياته.

من هنا تبدو دعوة زيدان منطقية. فالجماعة لم تعد اليوم كما كانت، ولم تعد تملك تلك الحاضنة ولا تلك الشرعية. استمرارها كتنظيم قديم يتغذى على رمزية المظلومية أكثر مما يتغذى على مشروع سياسي واقعي، هو عبء على نفسها قبل أن يكون على المشهد السوري. بل إنه خدم ولوقت طويل السردية الرسمية للنظام السوري البائد ، والتي كانت تستحضر “فزاعة الإخوان” لتبرير الاستبداد والقتل.

لكن جوهر المسألة ليس في صحة الفكرة، بل في توقيت طرحها. سوريا اليوم في لحظة انتقالية دقيقة، بعد حرب دامت أكثر من عقد، وتشرذم اجتماعي وسياسي غير مسبوق. أي حديث عن “حلّ” تنظيم سياسي أو اجتماعي، حتى لو كان الإخوان، لا يمكن إلا أن يُقرأ في إطار الإقصاء. فالبلاد بحاجة إلى توسيع الهامش السياسي لا تضييقه، وإلى إدماج الجميع في عملية وطنية جامعة، لا إلى رفع شعارات الإلغاء والاستئصال.

إن الحل ليس في “الحل الإداري” أو الإلغاء القسري، بل في إعادة التأسيس الطوعي، وفي التنافس عبر برامج واضحة لا عبر شعارات دينية أو مظلوميات تاريخية.

من موقع الداعي لا من شخصه

هنا لا يكمن الخلل في شخص الداعي ولا في قناعته، بل في موقعه ومنصبه الجديد. فأحمد موفق زيدان لم يعد مجرد صحفي يكتب مقال رأي، بل بات مستشارًا إعلامياً للرئيس أحمد الشرع. ومن ثمّ، فإن أي دعوة تصدر عنه تُقرأ بالضرورة كجزء من خطاب السلطة الجديدة، لا كوجهة نظر فردية. وهذا ما يجعل الأمر حساسًا، إذ يَظهر وكأن الدولة في بدايتها تتبنّى الإقصاء بدل فتح الباب للتعددية والمشاركة.

لقد شهدنا في تجارب أخرى أن الإخوان –أو تيارات خرجت من رحمهم– تمكنوا من إعادة صياغة أنفسهم بطرق مختلفة. في تركيا مثلًا، انبثق حزب العدالة والتنمية من خلفية إسلامية لكنه تبنّى خطابًا براغماتيًا مدنيًا فتح له باب الحكم. في المغرب، شارك حزب العدالة والتنمية في الحياة السياسية ضمن قواعد اللعبة الدستورية. حتى في مصر، ورغم النهاية المأساوية لتجربة الإخوان بعد 2013، فإنهم حاولوا الاندماج في النظام السياسي بعد ثورة يناير. هذه التجارب تقول إن الحل ليس في “الحل الإداري” أو الإلغاء القسري، بل في إعادة التأسيس الطوعي، وفي التنافس عبر برامج واضحة لا عبر شعارات دينية أو مظلوميات تاريخية.

تأثير السياق الإقليمي

يزداد أثر هذه الدعوة تعقيدًا إذا ما قُرئت في سياق الانفتاح السوري الراهن على دول إقليمية كالسعودية والإمارات ومصر، وهي دول بنت سياساتها في العقد الأخير على صدام مفتوح مع جماعة الإخوان المسلمين. ففي بعض هذه الحالات، كما في مصر، كان الصدام دمويًا وترك آثارًا سياسية واجتماعية ما تزال ماثلة حتى اليوم. ومن هنا فإن أي دعوة للحل في الداخل السوري ستُقرأ أيضًا على أنها استجابة لضغط خارجي أو انسجام مع بيئة إقليمية معادية للإخوان، أكثر مما تُفهم كحاجة سورية داخلية خالصة.

الإخوان في سوريا يمكن أن يتحولوا إلى تيار سياسي جديد أكثر انفتاحًا، أو يذوبوا في أحزاب مدنية حديثة، لكن ذلك يجب أن يكون قرارًا داخليًا نابعًا من مراجعة ذاتية، لا استجابة لضغوط أو دعوات علنية من شخصيات في موقع السلطة. فالدعوة القادمة من موقع القوة تُقرأ دائمًا كخطوة إقصائية، حتى لو كانت نيتها الإصلاح.

ثم إن السؤال الأهم: لماذا الآن؟ هل الأولوية في سوريا اليوم هي حلّ الإخوان، أم بناء مؤسسات الدولة الجديدة، وإعادة المهجّرين، وترميم الثقة بين المكونات؟ أليس من الأجدى أن يُترك هذا النقاش للداخل السوري الحر، في بيئة آمنة تسمح بحرية التنظيم والعمل الحزبي؟

المطلوب هو الانتقال من منطق “الإلغاء” إلى منطق “التحوّل”، ومن منطق “المواجهة” إلى منطق “الاندماج”.

تصريحات الشرع: فشل الأيديولوجيات أم إقصاء جديد؟

وما يزيد المشهد حساسية ما نقلته «سكاي نيوز عربية» عن الرئيس أحمد الشرع حيث جاء التصريح كالتالي :

“أنا لست امتدادًا للأحزاب الإسلامية، سواء التنظيمات الجهادية أو الإخوان المسلمين، ولست امتدادًا للربيع العربي” مقرونًا بتشخيصه لفشل كل الأيديولوجيات القومية والإسلامية في المنطقة.

في الجوهر، قد يكون هذا التوصيف صحيحًا إذا ما قُرئ كتعبير عن إرهاق السوريين من الأطر المؤدلجة التي لم تنتج إلا الانقسام والاستبداد. غير أن خطورة مثل هذه التصريحات تكمن في شكلها الصدامي والإقصائي، إذ تبدو وكأنها تغلق الباب أمام تيارات واسعة من المجتمع بدل أن تدعوها إلى إعادة التأسيس والانخراط في مشروع وطني جامع. فالتجارب الكبرى لا تُمحى بالشعارات، وإنما بفتح فضاء سياسي جديد يُتيح لكل التيارات أن تعيد تعريف نفسها في إطار مدني وديمقراطي. إن لحظة الانتقال السوري ليست مجالًا لإعلان القطيعة المطلقة بقدر ما هي فرصة لبناء عقد اجتماعي جديد.

إن تجاوز هذه الإشكالية لا يكون بالحلّ أو الإقصاء، وإنما عبر طرح قانون عصري للأحزاب يتيح المجال أمام جميع القوى السياسية –بما فيها التيارات الإسلامية والمدنية– للعمل في إطار علني منظم، بدل البقاء في الظل أو تحت الأرض. وكذلك بفتح الفضاء العام أمام النقابات ومنظمات المجتمع المدني لتستعيد دورها الطبيعي في تمثيل الناس والدفاع عن مصالحهم. فالمجتمع الحي هو الذي يُوازن بين التيارات عبر صناديق الاقتراع والعمل النقابي الحر، لا عبر قرارات الحلّ والمنع.

خاتمة: أولوية التجربة السورية

الدعوة إلى حل جماعة الإخوان في سوريا صحيحة إذا ما رافقتها مراجعة كما أسلفنا. لكن توقيتها الآن، في لحظة هشاشة سياسية ومجتمعية، يجعلها خاطئة. فالمطلوب هو الانتقال من منطق “الإلغاء” إلى منطق “التحوّل”، ومن منطق “المواجهة” إلى منطق “الاندماج”. حينها فقط يمكن أن تنتهي هذه الصفحة من تاريخ سوريا، لا عبر محوها بالقوة، بل عبر تجاوزها بالسياسة. فالأولوية اليوم ليست تصفية ملفات الماضي بقدر ما هي ضمان نجاح التجربة السورية الانتقالية، وبناء دولة تتسع للجميع دون استثناء.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى