
أقدمت القوى المتنفذة في مدينة السويداء يوم السبت الفائت (23 – 8 – 2025) على اتخاذ خطوة إجرائية تمثلت بتشكيل ما يُدعى (الحرس الوطني)، وذلك عبر اندماج مجموعة من الفصائل العسكرية المتواجدة في المدينة في كيان واحد، كما جدّدت تلك الفصائل ولاءها للشيخ (حكمت الهجري) كمرجعية سياسية للكيان العسكري الجديد. وبحسب بيان أعقب الإعلان عن هذا التشكيل العسكري، فإن الأخير سيتولى مهمة الحفاظ على الأمن الداخلي للمدينة، إضافة إلى توليه مهمة التصدي للأخطار الخارجية ومواجهة الإرهاب ومكافحة تهريب المخدرات، مع الإشارة إلى استعداده للتنسيق مع التحالف الدولي لمقاومة الإرهاب، ومؤكداً في الوقت نفسه استعداده للاندماج بأية حكومة مستقبلية للبلاد.
لقد أثارت تلك الخطوة ردود أفعال عديدة ومتباينة، سواء على المستوى المحلي السوري أو على مستوى الأطراف الخارجية التي تراقب ما يجري في سوريا عن كثب، وتتراوح جميعها بين اعتبار ما جرى خطوة إجرائية وقائية حيال احتمال تصعيد عسكري ما يزال محتمل الحدوث، وبين اعتباره خطوة تأسيسية لمشروع أقل ما يقال عنه إنه يستبعد العودة إلى ما قبل 2011.
الأشد بؤساً هو عودة كثير من الواجهات الثقافية والإعلامية من كلا الطرفين إلى حواضنها البدائية والتزامها بحميتها الطائفية أو الدينية وتنصلها من مسؤولياتها.
خطوة تأسيسية تمهيداً للقطيعة
وأياً كان الحال، فإنه يمكن القول إن الإعلان عن الكيان العسكري الجديد ينطوي على نقلة نوعية في الصراع بين قوى الأمر الواقع في السويداء والحكومة السورية، لأسباب عديدة، لعل أبرزها:
1 – جاء هذا الإعلان عن التشكيل العسكري لاحقاً لتأسيس كيان مدني سابق له تمثل بمجلس تنفيذي منبثق عن لجنة قانونية، ما يعني أن ثمة مشروع حوكمة لا صلة له مطلقاً بالحكومة المركزية في دمشق، ولا يعتمد أي شكل من أشكال التنسيق مع القوى الممثلة للدولة السورية، ما يعني أن القوى المتنفذة في السويداء ماضية في القطيعة مع السلطة في دمشق.
2 – يجسد الإعلان عن كيان عسكري رغبة قوية لدى قوى الأمر الواقع في السويداء على أن يكون لها أوراق قوة حيال أي عملية تفاوضية في المستقبل مع الحكومة في دمشق، بل يمكن التكهن بأن سلطة الهجري في السويداء ستشترط بقاء هذا الكيان العسكري كتلة واحدة حتى في حال اندماجه أو ارتباطه بالحكومة المركزية في دمشق – في حال حصل ذلك – وذلك على غرار ما تطالب به قوات سوريا الديمقراطية في تفاوضها مع الحكومة السورية.
3 – يرى كثيرون أن الإعلان عن هذا الكيان العسكري جاء – في أحد جوانبه – تلبية لحاجة جميع الضباط والأفراد الذين كانوا على ولاء لنظام الأسد، وهم الآن منخرطون في المجلس العسكري للسويداء، ليكون غطاء وقائياً يحافظ على حياتهم ومصيرهم، باعتبارهم باتوا مطلوبين للقضاء السوري. وربما يكون مطلب حماية هؤلاء أو مستقبلهم إحدى محطات التفاوض إذا حصل في المستقبل.
منذ اشتعال الاقتتال في السويداء في الثالث عشر من تموز الماضي وإلى الآن، لم يُلحظ في المشهد السوري أي حراك من جميع الأطراف أو أي مبادرة جدية للتعاطي مع أحداث السويداء، بل كل ما نشهده هو ردود أفعال لا تغادر تبادل الاتهامات وإعادة إنتاج سرديات لا يبعث تكرارها إلا على المزيد من تكريس الأزمة.
تزامناً مع خطاب طائفي مسعور قلّ أن شهدت الحالة السورية مثيلاً له، ولعل الأشد بؤساً هو عودة كثير من الواجهات الثقافية والإعلامية من كلا الطرفين إلى حواضنها البدائية والتزامها بحميتها الطائفية أو الدينية وتنصلها من مسؤولياتها، إما لأنها بالفعل ما تزال مشدودة لولائها البدائي أكثر بكثير من ولائها لشعاراتها ومقولاتها الفكرية أو الثقافية، أو لعدم قدرتها على مواجهة التيار الصاخب الذي لا يعلو فيه سوى الصراخ الطائفي المقيت. وفي هذه الحال، كان – وما يزال – الجميع ينتظر صوت الحكومة السورية باعتبارها ممثلة للدولة، والتي لا ينبغي أن يكون موقفها محكوماً بردود الأفعال الأخرى. فالدولة وإن كانت طرفاً في النزاع، إلا أنها ليست طائفة وليست جماعة، ولا ينبغي لها أن تفكر من هذا المنظار، بل هي الدولة بما تمثله من مرجعية لعامة السوريين بعيداً عن أية محددات عرقية أو دينية أو جهوية. وبالتالي، فإن اكتفاءها بمعالجة الأزمة عبر البحث في المؤثرات الخارجية – على الرغم من أهميته – لا يمكن أن يؤسس لحل مستدام وصحيح.
الإحالة الدائمة إلى دور العوامل الخارجية في استمرار الأزمة، وإن كان صحيحاً، إلا أنه لا يمكن أن يسهم في تمهيد سبل الحل المطلوب. إذ لقد وفر قادة إسرائيل كثيراً من عناء التأويل على أصحاب التحليل وهواة الحديث عن استشراف الاستراتيجيات المستقبلية، إذ أكد قادة الكيان الصهيوني (كان أكثرهم وضوحاً جدعون ساعر) في أكثر من مرة، ومن قبل سقوط الأسد بأشهر، أنهم يسعون إلى تقسيم سوريا وفقاً لمحددات عرقية ودينية. كما لم تكن تخفى ادعاءاتهم بالدفاع عن الأكراد تارة، والدروز والعلويين تارة أخرى، علماً أن الأكراد والدروز والعلويين ليسوا مسؤولين بالضرورة عن توجهات إسرائيل أو ادعاءاتها، إلا أن النتيجة المؤسفة هي قدرة إسرائيل بالفعل على استثمار النزاع الطائفي في سوريا. وليس أدلّ على ذلك من أن يكون موضوع السويداء على قائمة جدول أعمال لقاءات وزير الخارجية السوري بالجانب الإسرائيلي خلال اجتماعين سابقين في باريس، وبحضور المبعوث الأميركي توماس براك.
لا بد من التفكير عبر مقاربات أخرى أكثر جرأة ومسؤولية، ولو استدعى ذلك تنازلات متبادلة من الجميع. فـ “وضع الملح على الجرح” – كما يقال – خير من تركه يتقيح.
هل وصلت الحكومة السورية إلى طريق مسدود؟
منذ الأشهر الثلاثة الأولى التي أعقبت سقوط نظام الأسد، أسهمت الحكومة السورية في إقامة جسور من التواصل والحوار مع أهالي مدينة السويداء، إلا أنها اختزلت تلك الجسور والحوارات مع رجال الدين وفي مقدمتهم حكمت الهجري، في حين أبدى الأخير تردداً واضحاً في تطوير العلاقة وتنميتها مع دمشق، ثم سرعان ما تطور تردد الهجري إلى موقف عدائي حيال السلطة السورية الجديدة، متهماً إياها بالإقصاء والإرهاب، وذلك قبل اندلاع أحداث السويداء. ما يعني أن المسار الذي قرر الهجري انتهاجه – وربما كان ذلك بالتنسيق مع طرف خارجي – قد تم تحديده سابقاً، وقد وجد فرصة مناسبة لتعزيزه من خلال الأحداث الدامية التي شهدتها أيام (13 – 14 – 15 تموز الماضي).
ولكن على الرغم من ذلك، ما تزال الحكومة السورية لا ترى مفاتيح الحل إلا بالمرجعيات الدينية وفي مقدمتها الهجري، وربما ما تزال ترى الحل في صدور موقف تنتظره من واشنطن وتل أبيب بتنصلهما من أي دعم لمشروع انفصالي يقوده الهجري ومن حوله. ولعل السؤال الذي ما يزال يتكرر على الدوام: لماذا تصر الحكومة السورية على تحييد باقي الفعاليات السياسية والنقابية والمجتمع المدني في السويداء؟ أما القول بأن تأثيرهم يكاد يكون محدوداً قياساً بالنفوذ الذي يملكه رجال الدين، فهذا ربما يكون صحيحاً الآن، أي بعد المقتلة التي جرت في السويداء والتي جعلت من الهجري بطلاً في أعين حاضنته، أما قبل ذلك فقد كانت هناك أصوات أخرى ثقافية وفنية وسياسية. وأما عن عدم بروزها آنذاك، فالجواب أن الحكومة السورية أهملتها ولم تبدِ حيالها مبادرات كما فعلت مع الهجري وأقرانه.
لا ينبغي نسيان أن ما جرى في السويداء من إراقة للدماء هو موضع إدانة واستنكار شديدين، بل ما هو مؤكد أيضاً أن أوجاع أهالي مدينة السويداء قد ألقت بتشظياتها على جميع السوريين. ولعل فداحة هذا الوجع وغزارة الجراح، موازاة مع غياب أي محاسبة للجناة، قد أتاحت مناخاً مناسباً لظهور أدوار مشبوهة تسعى إلى المغامرة بمصير ومستقبل السويداء وإرثها النضالي والإنساني الذي لا يمكن تجاوزه أو المزايدة عليه.
ولئن ما يزال صوت الضمائر النقية والعقول البصيرة خافتاً أو مغيباً بموازاة هدير الردح الطائفي وردات الفعل غير المسؤولة، فإن هذا لا ينبغي أن يتحول إلى حالة اعتيادية ينبغي التصالح معها أو التماهي بها، بل لا بد من التفكير عبر مقاربات أخرى أكثر جرأة ومسؤولية، ولو استدعى ذلك تنازلات متبادلة من الجميع. فـ “وضع الملح على الجرح” – كما يقال – خير من تركه يتقيح.
المصدر: تلفزيون سوريا