
لا يزال طريق دمشق-السويداء مقطوعاً على العديد من المستويات. هو مقطوع سياسياً بين السلطة القائمة فيها والسلطة في دمشق، ويُذكَر أن الأولى اتخذت وتتخذ إجراءات إدارية خاصة في طريق تشكيل إدارة ذاتية. الملف الإنساني بالطبع لا يقلّ أهمية عن السياسي الذي تسبَّب به، فطريق الإمداد الرئيس من دمشق إلى السويداء لا يزال مقطوعاً، والمحافظة تعتمد على القليل من المساعدات التي تصل بإشراف أممي. وقد لا يقل فداحة، على المدى الأبعد، الانقطاع بين السويداء والكيان السوري لأول مرة على هذا النحو منذ قرن.
كانت السويداء قد شهدت قبل أسبوع تظاهرة تحت شعار “حق تقرير المصير”، ثم راح كثر يروّجون لانتصار تحقَّقَ للمحافظة بضغط إسرائيلي في مفاوضات باريس بين وزير الخارجية الشيباني ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي. إذ قيل إن الأول وافق على ممر درزي-درزي، يربط بين دروز إسرائيل والسويداء، فيما لم يؤكد أي مصدر مستقل تفاصيل اللقاء. في الغضون كانت الأصوات الأعلى تتصدر التعبير عن السويداء، وهي أصوات تنادي باستقلال يقطع لا مع السلطة الحالية فحسب، بل يقطع أيضاً مع مئة عام من الكيان السوري وأهله.
أصوات قليلة، خافتة بطبيعة الحال، تمنّى أصحابها صدور مبادرة سورية تجاه السويداء، ويُقصد بها على نحو خاص مبادرة من الأكثرية المذهبية السنية. إلا أن هذه الأصوات لاقت الإهمال من جانب الفئة المستهدَفة بإطلاق المبادرة، ولاقت التوبيخ من نشطاء الاستقلال. في المحصّلة، يجوز الحديث عن قرابة شهر من الانفصال، تؤجّجه على السوشيال ميديا سجالات لا تنتمي إلى مشروع سوري جامع.
من بين المطالبين بالاستقلال هناك مَن يطالب بفتح طريق دمشق-السويداء، ولا يطالب مثلاً بفتح معبر من الأردن، على افتراض أن الأخير قد تكون له الأولوية مع المطالبة بالانفصال. وهناك أيضاً من لامَ الأكثرية المفترضة لأنها لم تتحرك في الشارع، فلم تكن هناك مثلاً مظاهرات داعمة للسويداء، أو حتى تحركات رمزية على غرار ما عُرف بـ”بيان الحليب” الذي وقّعه مثقفون في مستهل الثورة السورية ضد الأسد، مطالبين آنذاك بفكّ الحصار عن درعا.
والواقع، أن المطالبات غير المنسجمة مع طرح الاستقلال، لا تلحظ ما تتسبب فيه فكرة التقسيم من اضطراب فكري يلجم بدوره حسّ المبادرة المأمولة على أسس وطنية. مثلاً، قبل قرابة أربعة أسابيع بدأ تضامن غير منسَّق يظهر على السوشيال ميديا، يطالب أصحابه بفكّ الحصار عن السويداء، وبفصل الملفّ الإنساني عن السياسي. وحينها سُلِّطت الأضواء على دخول أول قافلة مساعدات، لكن سرعان ما تراجع التضامن الواعد بسبب تظاهرة في السويداء هُتِف فيها: “بدنا إسرائيل.. بدنا إسرائيل”.
قد يكون أصحاب الهتاف قلّة لا تمثّل الأكثرية في السويداء، وكذلك حال الذين رفعوا العلَم الإسرائيلي في تظاهرات لاحقة. وإذا كان الأمر على هذا النحو فهو يشير إلى أغلبية صامتة لا يُعرَف رأيها، ووجود الأغلبية الصامتة ليس حكراً على السويداء، ولا على الأكثرية المذهبية المخاطَبة؛ إنه بالأحرى ظاهرة سورية راسخة، ما يعيدنا إلى الأصوات الأعلى التي تختطف تمثيل الصامتين.
كَسْر الاصطفاف الحاد الراهن بمبادرة وطنية يلزمه أولاً فصْلٌ متفق عليه بين اتخاذ أشد المواقف راديكالية من السلطة في دمشق وبين الإصرار على الوطن السوري، حيث لا يجب أن يكون ثمة تفاضل في الانتماء إليه. السلطة (ككل سلطة) زائلة، أما التفكير في شؤون البلد وأهله فهو شأن آخر، بما في ذلك التفكير المشترك في النظام السياسي الأنسب.
يمكن اليوم التشارك على بعض القواعد الأساسية، وبحيث يكون الهدف استقطاب طيف من السوريين، فلا تقتصر المبادرة على الأكثرية المذهبية، ولا تكون على شاكلة نفاق الطوائف. أولى القواعد التي تحتاج إلى ترسيخ هي عدم استخدام الملف الإنساني كأداة للضغط السياسي، هذا يتضمن عدم استخدام سلاح التجويع، وطيّ صفحته نهائياً بعد 14 عاماً من الويلات والكوارث بسببه. أيضاً، هذا يقتضي عدم استخدام المدنيات والمدنيين كأوراق ضغط وابتزاز للخصوم السياسيين، وتجريم كافة عمليات الاعتقال والاختطاف بلا مواربة أو تنصّل من المسؤولية، من أية جهة كانت.
ذلك يقود إلى ضرورة تجريم العنف السياسي بمختلف أشكاله، بدءاً من استخدام الوسائل العسكرية لتحقيق أغراض سياسية، مروراً بكافة أشكال الاعتقال السياسي والإخفاء القسري والتعذيب. لقد كان العنف السياسي في صُلب السلطة الأسدية، ومن ثم الثورة عليها، وتجريمه هو الذي يستهل عهداً جديداً من استرجاع السياسة كأداة للصراع بين السوريين المختلفين. ولئن كان العنف السياسي، ثم الرد عليه بعسكرة مضادة، قد أدّيا إلى حال الانقسام السوري الراهن، فمعالجة الانقسام لا تكون من جنس الداء، أي أن اللجوء إلى القوة ينبغي ألا يكون خياراً في معالجة ما تسبب به اللجوء إلى القوة من قبل.
نبذُ العنف بالمطلق، ومن قبل الجميع، سيعطي وجاهةً عملية وأخلاقية لمبدأ عدم جواز اقتطاع أجزاء من البلد بالقوة. وجدير بالتذكير أن اللجوء إلى العنف، ثم العنف المضاد، شرّع البلد أمام التدخلات الخارجية، وفي هذا العصر (على الأقل) لم تعد سيادات الدول تُفرض بالقوة، لأن الإكراه يستولد عنفاً لا يندر أن يجد سنداً من الخارج. الدولة الحديثة تحتكر العنف لأنها ليست طرفاً في صراع داخلي، بل المفترض أنها حصيلة مجموع الإرادات الداخلية.
الاتفاق على النقاط السابقة، وغيرها مما قد يكون أساسياً وضرورياً، ليس مهمة فئة بعينها من السوريين. ومن الجيد الابتعاد قدر الإمكان عن أوهام الأكثرية والأقليات، فلا أبناء الأكثرية ولا أبناء الأقليات أُتيح لهم التعبير عن إراداتهم السياسية سلْماً وفق قواعد ديموقراطية. ومن دون توفّر مناخ ديموقراطي، آمن ومستدام، لا أفق كي تعبِّر الأغلبيات الصامتة عن مواقف سياسية، ما يحمِّل الأقليات من “الناطقين” مسؤوليةَ الوصول إلى تفاهمات.
عموماً، ستكون سوريا في مأزق كبير إذا بقي هناك تفاضل “وطني” على قاعدة الأكثرية والأقليات، فالفرز نفسه يُفترض أنه ينتمي إلى ما قبل المرحلة الوطنية. وتأسيس الكيان السوري قبل مئة عام كان تشاركياً، من دون المفاضلة بين أدوار المجتمعات السورية. واليوم، على عتبة المئوية الثانية، سيؤدي انكفاء “الأقليات” إلى غياب المعنى الوطني الجامع بطبيعته.
أي أن المبادرة الوطنية ليست حكراً على فئة من السوريين، والأمر يتعدى مبادرة تعيد فتح طريق دمشق-السويداء. ثمة معنى تأسيسي غائب، رغم أن البلد واقعياً في حالة إعادة تأسيس. التخلّي عن المسؤولية الجماعية إزاء هذا التناقض سيطيل أمده، في حين لا تظهر فرصة أخرى، حقيقية مقنعة، خارج مواجهته.
المصدر: المدن