
لم ينفكّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب يطلق الوعود الواحدَ تلو الآخر منذ حملته الانتخابية، متعهّداً بوقف الحرب وحلّ الصراع في أوكرانيا. ومن أجل ذلك بذل جهوداً مهمةً، سواء بإرسال مبعوثه ستيف ويتكوف للتفاهم مع الأطراف أو من خلال انغماسه شخصياً في هذه الجهود، كما في قمّة ألاسكا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 15 أغسطس/ آب الجاري. بغض النظر عن دوافع ترامب لوقف الحرب، وعن حجم الجهود التي استثمرها، إلا أنه قد حكم على نفسه بالفشل، مطلقاً النار على قدميه، حينما غيّر موقع الولايات المتحدة من لعب دور “طرف” (بل الطرف الرئيس) في هذا الصراع إلى دور “الوسيط” (بل الوسيط المحايد)، محدثاً تغيراً جوهرياً في موازين القوى بين أوكرانيا وروسيا، وما كان عاملاً حيوياً للأطراف لتغيير مواقفها والاقتراب من التوصّل إلى تسوية سلمية.
غيّر ترامب موقع أميركا من طرف رئيس في صراع أوكرانيا إلى وسيط محايد، فأحدث اختلالاً جوهرياً لموازين القوى لصالح روسيا
لعبت الولايات المتحدة دور الطرف الرئيس في الصراع إلى جانب أوكرانيا إبّان عهد بايدن، فقادت التحالف الغربي كلّه، ورصدت عشرات المليارات لتمويل الحرب، بالإضافة إلى تزويد أوكرانيا بدرّة سلاح البرّ الأميركي مثل دبابات أبرامز المتقدّمة، ودبابات ليوبارد 2 الألمانية، التي شكّلت ضغطاً ليس نوعياً فقط، ولكن رمزياً ومعنوياً أيضاً، عندما عادت الدبابات الألمانية إلى حدود روسيا موقظةً تاريخاً مؤلماً في الحرب العالمية الثانية، عندما دكّت دبابات النازية الألمانية أسوار مدينة لينينغراد (سان بطرسبرغ).
وصل الصراع في أوكرانيا إلى أقرب نقاط الحلّ مع روسيا، ووصلت موازين القوى إلى أقرب نقطة من التكافؤ، وكانت أوروبا كلّها على قلب قرار سياسي واحد، وفتحت البرلمانات الأوروبية أبوابها على مصراعيها للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي تحوّل نجمَ خطابات في البرلمانات الأوروبية والعالمية، متحدّثاً فيها عن هزيمة روسيا المقبلة. والأكثر أهميةً من ذلك كلّه أن الخطاب السياسي الأميركي الأوروبي في تلك الفترة كان يتمحور، ليس حول هزيمة روسيا فحسب، بل حول “شكل الهزيمة” التي يجب أن يلحقوها بموسكو أيضاً، حتى ثعلب السياسة الخارجية الأميركية هنري كيسنجر كان يحذّر وقتها من إلحاق “هزيمة استراتيجية” بروسيا أو “هزيمة مهينة” كما جادل الآخرون، والاكتفاء فقط بهزيمة من النوع المتوسّط. لقد فوّت الغرب فرصةً تاريخيةً للوصول إلى أقرب نقطة لتسوية عادلة نسبياً للصراع في أوكرانيا في ظلّ موازين قوى متقاربة جدّاً، وربّما ليست في مصلحة روسيا، التي كان يمكن وقتها أن تقدّم مطالب معقولة للتسوية. من أهم أسباب ضياع تلك الفرصة جو بايدن المهووس بإذلال روسيا وبوتين بالتحديد، فكلا الرئيسَين عايشا الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن في أوجها، وحرّكت تلك العقلية والشخصية والرغبات السياسية لبايدن مواقفه السياسية تجاه روسيا، فأصرّ على المواصلة بهدف هزيمة روسية مذلّة، حتى آخر لحظة في رئاسته.
ولكن، سبحان مغيّر الأحوال! جاء ترامب بأجندة مختلفة بالكامل، وبدور أميركي جديد في الصراع، فلا ملياراتٍ ولا دبابات أبرامز، ولا أسلحةً إلا ما تدفع أوروبا ثمنها كما يردّد ترامب باستمرار. الانسحاب الأميركي من الصراع طرفاً أحدث اختلالاً جوهرياً لموازين القوى لصالح روسيا، ولا سيّما أن للدعم الأوروبي لأوكرانيا سقفاً محدّداً ولا يمكن لأوروبا تعبئة الفراغ الذي تركه الانسحاب الأميركي. وبذلك، تحوّلت المفاوضات من “نوعية الهزيمة” إلى “الثمن” الذي سيُدفع إلى بوتين لوقف الحرب. وبهذا المضمار يقول أستاذ السياسة المخضرم في جامعة شيكاغو جون ميرشايمر، لقد انتصر بوتين وهُزِمنا (الغرب) في أوكرانيا، فرغم العلاقة القريبة (وغير المفهومة) التي تربط ترامب ببوتين، إلا أن الأخير لم يمنح نظيره حتى وقف إطلاق نار لأيام في أوكرانيا في قمّة ألاسكا، حتى يباهي به الآخرين، ولو رمزياً. ولكن ترامب، الذي تخلّى عن دور “الطرف”، لا يصلح أن يكون “وسيطاً” أيضاً في هذا الصراع، وهو بذلك يمعن في إطلاق النار على قدميه، ويموضع نفسه للفشل فقط.
لا يكترث ترامب بأوكرانيا، ويضغط على زيلينسكي نحو الاستسلام ليقال إنه أنهى الحرب
إنه لا يملك عقيدة سلام تحرّكه بجدّية نحو حلّ الصراع، فهو نفسه الذي أطلق خطّةً للتطهير العرقي في فلسطين، وهو مختلف مبدئياً عن الرئيس السابق للولايات المتحدة جيمي كارتر، الذي امتلك عقيدةً لصنع السلام، بقي يعمل فيها بعدما أنهى فترته الرئاسية، ولم يتنازل عنها حتى آخر يوم في حياته، وهو أيضاً (كارتر) كتب كتاباً عن الفصل العنصري في فلسطين ودفع ثمنه سياسياً. دافع ترامب للوساطة هو شخصي فقط ليحسّن موقعه للحصول على جائزة نوبل للسلام، ولا يرصد المصادر المطلوبة لتحقيق السلام، فهو جوهرياً لا يكترث لأوكرانيا، وليست لديه مشكلة بالضغط على زيلينسكي بهدف الاستسلام في الحرب، حتى يُقال إن ترامب أوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا. وقد ظهر ذلك جلياً عندما زاره زيلينسكي في واشنطن، ولم يتوانَ عن توبيخه أمام كاميرات الصحافة، متهماً إياه بـ”المقامرة بحرب عالمية ثالثة”.
السلام الذي يسعى إليه ترامب في أوكرانيا ميكانيكي (transactional)، من دون روح أو عقيدة أو مبدأ، مرتبط بالحصول على مكافأة شخصية لدونالد ترامب، فهو سلام يتخلّله إذلال وتنازلات مجحفة، واستسلام وانعكاس لموازين قوى تميل جوهرياً لمصلحة بوتين في الوقت الراهن، وعليه فإن فرصه ضئيلة في النجاح، وإن استطاع تحقيق تقدّم فلن يكون مستداماً.
المصدر: العربي الجديد