
سورية في البال، وقلوبنا معها، ولا نريد لها أن تنكفئ مرّة أخرى، وقد عانت عقوداً مديدة من قبل، كما لا نريد لها أن تغرق في الفوضى، وبينها وبين الفوضى مسافة صفر. الوضع معقد، والموقف صعب، والأعداء الخارجيون كثر، وخصوم الداخل أشد ضغينة وحقداً، وأكثر من جهة تسعى إلى أن تجد موطئ قدم لها فيها، إسرائيل تتمدّد بغرض ابتلاع مزيد من الأرض بعد هضبة الجولان خطوة نحو “شرق أوسط جديد”، وإيران المطرودة تكيد للرجوع بعد خيبتها في “محور الممانعة” الميت تاريخيا، والعلاقة مع لبنان ليست “دهنا ودبسا” كما كانت أيام زمان، والحدود مع العراق ملغومةٌ بكل ما يثير الشبهات والشرور، والودّ مع الأردن مكتوب ومحسوبٌ بقدر، وتركيا العثمانية عيونها على دمشق يحرّكها مجد إمبراطوري آفل، وفرنسا تتوق إلى استرجاع نفوذها الذي كان عريضاً يوماً ما وانحسر، وروسيا الطامحة إلى إعادة إنتاج وضعها زمن الأسد الهارب. وقبل ذلك وبعده، الولايات المتحدة التي تنظر إلى سورية باعتبارها أحد أكثر المواقع الجغرافية والاستراتيجية في المنطقة، وتدعمها وفق حساباتها تلك، وثمّة أكثر من “سيناريو” جاهز على طاولة هذه الجهة أو تلك، ولعبة خلط الأوراق تتناسل فصولاً، لكن دمشق، مع ذلك كله، تعرف حالها جيدا، وتزن خطواتها بذكاءٍ وحذر، وببطءٍ يكاد يكون قاتلا.
ما يزيد من حراجة الحال أن نظام 8 ديسمبر (2024) ليس أمراً ناجزاً بعد، لنقل إنه محطّة أولية بين نظام ونظام، بين حال وحال مختلف. صحيحٌ أن نظام الأسدين الذي جثم على صدور السوريين أزيد من نصف قرن انهار في غمضة عينٍ، لكن أحجاره بقيت ماثلة على قارعة الطريق، وقد لا يكون سهلاً على رجال العهد الجديد السير بأمانٍ من دون التعثّر بها.
إلى ذلك، لم تكن الشهور التسعة التي مرّت على الحكام الجدد كافية لإنجاز متطلبات توطين الحالة الجديدة على أسس دستورية وقانونية تكفل ضمان الثبات والاستقرار، وتُنعش طموحات السوريين وآمالهم، وتضعها في إطارها الصحيح. على العكس، جرت المياه في غير ما اتجاه، وتواترت إحباطاتٌ في أكثر من مرفق وناحية، أخذت الكثير مما كان معلّقا من آمال إلى درجة أن فئاتٍ معتبرةً من أهل البلاد لم تعد قادرة على الانتظار سنوات أخرى كي تحصل على ما كافحت من أجله، أو على الأقل لم تتراءَ لها في الأفق ملامح لتغيير كانت تتوق إليه.
قدر السوريين، على اختلاف قومياتهم وأديانهم ومذاهبهم، أن يعيشوا موحّدين
واللافت في ما يدور اليوم في سورية ومن حولها التحرّكات الدبلوماسية العلنية والسرّية الهادفة الى احتواء ما حدث أخيراً في السويداء من تجاذبات واشتباكات بين سوريين دروز وقوات الجيش، وأيضا ما بان من تلكؤ في تنفيذ اتفاق 10 مارس (الماضي) بين الحكومة وقوات سوريا الديمقراطية، ومحاولة الأخيرة استغلال التوترات الحالية للحصول على مكاسب أكبر. وفي صلب ذلك اجتماع في باريس يضم ممثلي دول وقوى معنية بالأمر، وآخرمثله في عمّان، وجلسة لمجلس الأمن، والخشية قائمة لدى الجميع من أن ينزلق الوضع نحو خياراتٍ غير محسوبة، قد يكون منها خطر التقسيم أو الحرب الأهلية.
ليس عرض هذا بقصد تضخيم المخاطر التي تحيق بسورية الجديدة، إنما هو للإقرار بها، والعمل على درئها. وللتذكير بأن قدر السوريين، على اختلاف قومياتهم وأديانهم ومذاهبهم، أن يعيشوا موحّدين، وهذا ما يقوله تاريخ سورية، والفترات التي شهدت فيها سورية انقسامات وتناحرات لم تؤد إلا إلى مزيد من الفوضى والفتنة، هو أيضاً دعوة إلى دمج كل “الأطياف” التي عاشت على الخبز والملح معا في مشروع وطني جامع، تضمنُه آليات دستورية لها صفة الثبات، وهذا ما على الرئيس أحمد الشرع ورفاقه أن يعملوا على إنجازه قبل أن يفقدوا الدعم الذي وجدوه عندما قفزوا إلى السلطة. أما التذرّع بوجود مشكلات تعيق التقدّم بخطوات كهذه، فليس سوى عذر لا يصمد أمام المنطق، بل ينبغي أن تشكل تلك المشكلات الدافع إلى إنجاز ما هو جدير بالتحقّق، وبما ينسجم مع مطالب السوريين وتطلعاتهم.
وليس كثيراً على السوريين، وقد اختبروا التعدّدية العرقية والدينية قروناً، ومثلوا نقطة التقاء حضارات وثقافات مختلفة، أن يراجعوا ما التبس عليهم من تداعياتٍ حدثت في غفلة منهم، أن ينهضوا معاً من جديد ليحققوا ما يريدونه، وليقيموا دولتهم الجديدة على أسس الديمقراطية والحرية والعدالة واحترام الحقوق.
المصدر: العربي الجديد