حين تُغري الغطرسة أصحابها بمصير تراجيدي.. عن الحالة السورية

ضاهر عيطة

في مسرحية أوديب ملكًا لسوفوكليس، لا تتمثل الغطرسة في مجرد غرور شخصي أو اعتداد بالنفس، بل في اعتقاد أوديب الراسخ بأنه قادر على السيطرة على مصيره وتحدي النبوءة الإلهية. فعندما أنذره الكهنة والعرافون بمصيره — قتل أبيه والزواج من أمه — لم يكتفِ بإنكار ذلك، بل تصرّف وكأن إرادته المطلقة قادرة على تغيير ما كُتب.

هذه الثقة المفرطة قادته، دون أن يدري، إلى سلسلة من القرارات التي كانت سببًا في تحقق النبوءة نفسها. وهنا يكمن جوهر التراجيديا: المأساة الأوديبية تعلّمنا أن الغطرسة، حتى لو ارتدت ثوب الفضيلة أو الشجاعة، تحمل في جوفها بذرة السقوط. ففي لحظة المواجهة مع الحقيقة، لا ينهار أوديب سياسيًا أو عسكريًا فحسب، بل يتفكك كيانه الداخلي، ويختار العمى الجسدي ليعكس العمى المعرفي الذي عاش فيه طويلًا.

تُعرّف الغطرسة في علم النفس بأنها سمة شخصية تتّسم بإحساس مبالغ فيه بتفوّق الذات على الآخرين، مقرونًا بالاستخفاف بقدراتهم أو آرائهم، والرغبة في فرض السيطرة أو الظهور بمظهر المتفوق دائمًا. وهي تُعد أحيانًا آلية دفاعية تخفي خلفها مشاعر نقص أو انعدام أمان، فيلجأ الشخص إلى تضخيم ذاته أو إنجازاته لتعويض شعور داخلي بالهشاشة.

حين اخترعت السلطة الأسدية سردية “الإرهاب” وصدّرتها إلى العالم، كانت غطرستها تقول: “أنت وحدك صاحب التفسير، وصاحب العقاب، وصاحب القرار“.

وفي علم النفس الاجتماعي، يُنظر إلى الغطرسة على أنها سلوك ينشأ عن اختلال ميزان القوة، وغالبًا ما يتغذى على امتيازات السلطة أو المكانة، مما يجعل صاحبها يتجاهل المعلومات المتاحة، ويرفض النقد، ويتخذ قرارات متهورة.

ومن الضروري التمييز بين الثقة بالنفس والغطرسة: فالثقة بالنفس تستند إلى إدراك موضوعي للقدرات واحترام الآخرين، أما الغطرسة فتتّسم بالتهوين من شأن الآخرين والمبالغة في تقدير الذات، وغالبًا ما تؤدي إلى قرارات خاطئة أو عزلة اجتماعية.

إذًا، الغطرسة ليست انفعالًا عابرًا أو خصلة شخصية معزولة، بل قد تكون نظامًا متكاملًا من التفكير والسلوك، حين تُصيب من بيده السلطة. وهي لا تكتفي بإيهام صاحبها بالتفوق، بل تدفعه إلى خوض معارك عبثية تجرّ البلاد إلى الهلاك. كما في الحالة السورية الأسدية، إذ لم تكن الغطرسة مجرد مزاج سلطوي، بل جوهرًا مكوّنًا لمنظومة حكم آمنت بأنها أكبر من الشعب، وأبقى من الزمن، وأقدر من القدر، وآمنت بالأبدية.

ويمكن رصد كيف تحوّلت الغطرسة من خطاب إلى فعل، ومن فعل إلى مصير، حيث بدأ الأمر باحتقار المطالب الشعبية التي رفعها الثوار في البدايات — “الشعب السوري ما بينذل” — ثم بالتهكم عليها، ثم بقمعها وسحقها. فتولّدت عن هذا القمع مطالب أكثر علوًّا — “الشعب يريد إسقاط النظام”. وهكذا صار صوت الناس خيانة، ودمهم ماءً مباحًا، وأرواحهم أرقامًا لا تستحق التوقف عندها. ولم يُنظر إلى الناس بوصفهم شركاء في وطن، بل رعايا في مزرعة، أو عبيدًا في طاعة الطاغية.

لم يُصدق السفاح الأسد، ولا حاشيته، أنهم قد يسقطون يومًا، بل ظنّوها أبدية، ووضعوا ثمن السقوط حرق سوريا بأسرها. حتى إن عضو مجلس الشعب شريف شحادة قالها صراحة عبر إحدى الفضائيات: “يمكن للشمس أن تشرق من الغرب وتغرب من الشرق، إلا أن النظام السوري لن يسقط”. وهذا وجه صارخ من وجوه الغطرسة.

أجل، فالغطرسة تقول لصاحبها: “لن تسقط”. تقول له: “الزمن ملكك، والحقيقة لا تُكتب إلا في بياناتك، والعدو هو كل من يخالفك”. هكذا أغمضت السلطة الأسدية عينيها، وأذنيها، وقلبها، ومضت نحو الكارثة وهي تتفاخر وتسخر وتضحك، دون أن تعي أنها سائرة إلى السقوط حتمًا. وكما في التراجيديات الكبرى، لم يكن السقوط خارجيًا فقط، بل من داخل النفس والبيت والمؤسسة.

حين اخترعت السلطة الأسدية سردية “الإرهاب” وصدّرتها إلى العالم، كانت غطرستها تقول: “أنت وحدك صاحب التفسير، وصاحب العقاب، وصاحب القرار”. لكن النتيجة كانت أن البلاد أصبحت فريسة للإرهاب الحقيقي، والطائفية، والاحتلالات المتعددة.

نعم، فالمصير التراجيدي لا يأتي دفعة واحدة، بل يتسلّل رويدًا رويدًا. يخرج الناس من بيوتهم لأجل الكرامة والحرية، فيُقتلون. يهرب من ينجو منهم، وتُهدم المدن فوق ساكنيها، وتُغتصب البلاد أمام أعين الجميع، ويظل السلطان يزهو، ويخطب، ويصفّق له من تبقى من حاشيته.

حتى بعد السقوط، وإلى الآن، لم تقل الحاشية المتغطرسة: “لقد أخطأنا”. ولم تعتذر، لأنها تعتبر نفسها فوق الاعتذار. لا تنظر في المرآة، لأنها لا ترى في المرآة إلا قناعها. وهي لا تعلم أنها عارية. الغطرسة لا تتعرّى وحدها، بل تُعرّي كل ما حولها: العلاقات، المؤسسات، الإعلام، الجيش، الشارع، حتى ذاكرة الوطن.

وبعد أربعة وخمسين عامًا من الكارثة، تبقى الأسئلة حارقة: كم كان يمكن تفادي كل ما جرى لو كان في الحكم عقل لا غطرسة؟ كم روحًا كان يمكن إنقاذها؟ كم طفلًا كان سيكبر طبيعيًا؟ كم مدينة كان يمكن أن تُزهر بدل أن تُقصف؟ لا جواب. الغطرسة لا تجيب، بل تواصل تكرار المسرحية، حتى بعد أن انفضّ الجمهور، وانهار المسرح.

أشدّ ما في الغطرسة أنها تدمر صاحبها بعد أن تدمر كل شيء، لكنها في الحالة السورية لم تكتفِ بذلك، بل جعلت من البلاد كلها مسرحًا للمأساة، ومن الشعب كله ضحايا في تراجيديا بلا نهاية.

فهل يمكن أن يؤمَل من السوريين اليوم إدراك هذا الأمر؟

هو سؤال مفتوح على احتمالات كثيرة، ويتطلّب مقاربة صريحة.

إن فهمَ المصيرِ التراجيدي الذي أوقعت الغطرسةُ سوريا فيه، لا يكفي أن يُقال، بل يجب أن يُترجم إلى بنى وممارسات ومعايير. فمن لم يتعلّم من التراجيديا الأولى، قد يكون هو نفسه بطل التراجيديا التالية.

هل من الممكن أن يستخلص ورثة الثورة — لا منتحلوها — عبرةً من هذا المسار المروّع الذي أوصلت إليه غطرسة العصابات الأسدية؟

وانطلاقًا من بعض الأحداث الجارية على الأرض، يكاد يُقال إن العبرة لم تُفهم جيدًا. فبدلًا من بناء نموذج بديل يستند إلى الشفافية والمساءلة وتوسيع السلطة، نرى إعادة إنتاج لذهنية المركز والتفرّد، وصراعًا محمومًا من قبل بعض الحواشي على المواقع لا على المبادئ، وكأن الدرس لم يصل إليهم.

لكن الأمل، إن كان له أن يُبنى، فلن يكون على الفاسدين والمفسدين والمتغطرسين، بل على من لم تُفسدهم بعدُ شهوة الكرسي، ولا موائد الامتياز. على من يعتبر السياسة مسؤولية لا غنيمة، وعلى من لا يرى في الحكم وسيلة للهيمنة، بل أداة لتحقيق العدالة.

إن فهمَ المصيرِ التراجيدي الذي أوقعت الغطرسةُ سوريا فيه، لا يكفي أن يُقال، بل يجب أن يُترجم إلى بنى وممارسات ومعايير. فمن لم يتعلّم من التراجيديا الأولى، قد يكون هو نفسه بطل التراجيديا التالية. فشكلٌ من أشكال الغطرسة أن يستأثرَ فصيلٌ عسكري، من خارج إطار أجهزة الحكومة، بالسلاح، مدّعيًا أنه حامل لواء المظلوميّة الكبرى، وحامي ربعِه وعشيرته وطائفته. وشكلٌ آخر من أشكال الغطرسة أن ننسبَ النصرَ والتحريرَ لأنفسنا وحدنا، وأن نحتكرَ الضحايا، فلا نرى في الساحة إلّا جماعتنا ومن يشبهوننا، وأن نوزّع الأدوارَ والامتيازات على مقاسهم، مفترضين أنهم وحدهم من سيدعموننا.

لكن سرعان ما سنجد أنفسنا، في نهاية المطاف، نسير نحو مصيرٍ مشؤوم، قد لا نعترف به، ونظلّ مصرّين على المضيّ في غطرستنا.

سوريا وطنٌ لكل أبنائها، ولن تكون يومًا حكرًا على أحد. فالدولة العادلة، التي يتساوى فيها المواطنون جميعًا أمام القانون، هي السبيل الأوحد للمضيّ قدمًا. وإن لم تُعلّمنا المجازر الأخيرة درسًا قاسيًا، فلا أدري أيّ كارثة أخرى ستكفي لتحرّرنا من غطرستنا.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى