
بدأْتُ في مثل هذا اليوم، 2 أغسطس/ آب، قبل 30 عاماً، الاغترابَ عن بلدي الأردن، وما زلتُ فيه، ولا أدري متى تكتمل سنواتُه، فقد هبطتُ عصريّة ذلك اليوم القائظ (هكذا أتذكّره) في مطار الدوحة، لأكون محرّر الصفحة الثقافية في صحيفة الوطن القطرية تحت التأسيس، وقد صدر عددُها الأول بعد شهرٍ من وصولنا، لأبقى ثلاث سنوات ونصف السنة، غادرتُ في غضونها تلك الصفحة إلى قسم الأخبار العربية والدولية، قبل أن أرتحل إلى الشارقة للعمل محرّراً في القسم المثيل في صحيفة الخليج تسع سنوات، ثم أعمل في سكرتاريا التحرير في صحيفة الإمارات اليوم ثم في القسم المثيل في “البيان”، في دبي، فأعود إلى الدوحة في فريق تأسيس موقع وصحيفة العربي الجديد، في الشهر الأول من 2014.
أعتذر من القرّاء لإزعاجهم بهذه التفاصيل الشخصية، وما كنتُ سأفعل هذا، وما كنتُ سألتقط اكتمال هذه السنوات الثلاثين مناسبةً لهذه المقالة، لولا أنني استفظعتُ (نعم استفظعتُ) مقالةً صادفتُها، في موقع إلكتروني (مقروء في قطر ومحظور في الأردن)، لروائيٍّ مصري، أعدُّه صديقاً عزيزاً، كتبَ فيها إنه تلقّى، مرّةً، عرضَ عملٍ في صحيفة في إحدى دول الخليج فرفضه. وقد جاء على فعل الرفض (المفردة نفسها) باعتدادٍ وشيءٍ من الزهو، في مقالته التي تضجّ فوقيةً، ما أشعرني بأني “متّهمٌ” بنقصان الكرامة، لأني قبلتُ في لقائي مع رئيس تحرير “الوطن”، أحمد علي، في فندق ماريوت في عمّان، (بتوصيةٍ من الصديق محمود الريماوي)، عرض العمل والسفر إلى الدوحة. أتذكّرني في تلك الظهيرة مغتبطاً بهذه “الفرصة” (وإنْ بان لي لاحقاً إن الراتب ضعيف)، وأنا الذي كان يجول في خاطري، إبّان دراستي الصحافة في الجامعة في النصف الأول من الثمانينيات، أن أعمل في صحافة الكويت، وقد “أشهرتُ” هذا بعد عقودٍ في مقالةٍ شبه شخصيةٍ (مثل هذه؟) في صحيفة الحياة.
ربما من الأنفع عدم الانشغال بالذي نشره الروائي، وبسخريته من جوائز الأدب في الخليج (شارك في منافسات إحداها)، وهو الذي استُضيف في عواصم خليجيّة، وكتب في مواقع وصحف خليجية. ولكن “الذهنيّة” التي صدر عنها لا تخصّه وحده، فمثقفٌ لبنانيٌّ لا يجد حرجاً في قناعته بأن دول الخليج رملٌ ونفط وحسب، ولمّا تنازعت إبّان حصار قطر فـ”فخّارٌ يكسّر بعضه”، ومثقفٌ فلسطينيٌّ يُشفق علينا من الانشغال بقضايا دول الخليج وخلافاتها وشؤونها، ولا يرانا سوى عاملين عند “طويلي العمر”. وكثيرون غير هؤلاء يعتنقون أننا لا نكتُب ولا نقول في الصحف والفضائيات التي نعمل فيها سوى ما يوحَى لنا به، أو ما يُطلب منّا. والغريب في حالهم أنهم إذا أرادوا التعبير عن مواقفهم لا يجدون سوى شاشاتٍ وصحافاتٍ ومنصّاتٍ تُنفق عليها حكوماتٌ خليجية. والأغرب أنهم لن يُحيطوا بالجاري في غزّة وأوكرانيا والبيت الأبيض إذا لم يواظبوا على تلقّي الأخبار والتقارير من هذه الميديا. ولهم، في الوقت نفسه، أن يدردِشوا، كما يشاءون، عن أجنداتٍ وحساباتٍ و… إلخ.
الأنفع أن أقول إن آلاف المقالات كتبتُها في الأعوام الثلاثين، ولم يحدُث، ولو مرّة، أن طولبتُ بكتابة حرفٍ واحدٍ منها، من أي جهة، ولا من أي رئيس تحرير أو مدير تحرير (كتبتُ مرّاتٍ معدودة افتتاحياتٍ غير موقّعة، في غياب زملاء مختصّين بها). ولم يحدُث أنني تلقّيتُ أي معاتبة من أي مسؤول على أي كلمةٍ كتبتها. ولا يعني هذا أنني في سويسرا، ولا أنني كاتبٌ غضنفر، أو أشربُ حليب السباع قبل أن أبدأ “ثوريّتي” عندما أكتب. وإنما يعني أن الخرافات التي تعشّش في أفهام أصحابنا أولئك تجعلهم مستشرقين، ومطالَبين بالتدقيق في ما يتعنْترون بشأنه، والتخفّف من موضعتهم أنفسَهم “نظيفين” من “الخلجنة” فيما نحن مستخدَمون “مخلجَنون”.
الأنفع أن أقول إنني، في السنوات الثلاثين، اغتنيتُ بتجربةٍ إنسانيةٍ ومهنيةٍ بديعة، تعرّفتُ إلى جموعٍ رائعة من الأصدقاء والزملاء، من كل الدول العربية، أفدتُ من كثيرين منهم، وبعضُهم أفضل مني إنسانيّاً وأكفأ مهنيّاً. وتعلّمتُ من أهل الخبرة معرفة غزيرة. ونعمتُ بأمنٍ وأمانٍ وفيريْن، وتدرّجتُ في مهامّي وعملي، وكوفئتُ وعوقبتُ، وأصبتُ وأخطأت، وأحرزتُ جوائز، وسافرتُ إلى بلدانٍ بعيدةٍ وقريبة، وتثقّفتُ وقرأت. وإذ تعرقلتُ بمنغصّاتٍ ومشكلاتٍ صغرى وكبرى، ونوباتٍ من سوء الحظ، فإنها سنن الحياة والعيش، لكني أجدُني محظوظاً بما أخذتْني إليه المقادير، وهذا قطارُ الحياة يمضي، وأتمنّى كل الخير لكل أهل الخليج، فلم أرَ منهم إلا الدماثة والأخلاق الحسنة.
المصدر: العربي الجديد