انتزاع غزّة من براثن الوحش المفترس

عبد اللطيف السعدون

في الذاكرة فيلم “الفك المفترس” الذي عرض في سينمات بغداد في سبعينيات القرن الراحل، يحكي الفيلم الذي استند إلى رواية الأميركي بيتر بينشلي قصة سمك قرشٍ ضخم يثير الرعب لدى سكان إحدى الجزر، إذ يقدم على الفتك بالبشر وافتراسهم، ويحاول كثيرون وضح حدٍّ لجنونه، وبينهم رجال أمن، وخبراء بيئة، وصيادون محترفون، لكن الأمر بدا في غاية الصعوبة، اذ ظل هذا الوحش يفتك بضحاياه.

في غزّة يحدُث اليوم مثل ما حدث في تلك الجزيرة الصغيرة التي روى حكايتها بيتر بينشلي، الوحش الإسرائيلي يفتك بناس غزّة منذ أزيد من 20 شهرا، وقد وصل عدد الشهداء الى 57682، والجرحى والمعوّقين 137459، والعدّاد ما يزال يعمل، والقصة لم تصل إلى نهايتها بعد، لسبب بسيط، أن الوحش الإسرائيلي لا يريد أن يوقف حربه المقدّسة قبل أن يفتك بآخر طفل غزّي، وآخر ما قاله نتنياهو أنه يخيّر الغزّيين بين أن يهجُروا بيوتهم بعد أن تكفّلت الآلة العسكرية الصهيونية بمحوها من على الأرض وأن يبقوا وسط الجحيم حيث سيتم إفناؤهم عن بكرة أبيهم… هذا ما قاله في حضرة “سيّد العالم” دونالد ترامب، وفي ظل صمت مطبق من مقيمين كثر على الخريطة العربية التي شرعت تنكمش وتتمزّق، واذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فلا بد من حمد بعض العرب الذين سعوا إلى وقف النار، أو عبّروا عن سخطهم على استمرار الوحش في الفتك بالبشر، ولم تكن بأيديهم حيلة، كي يفعلوا أكثر مما فعلوه.

وأيضا، ثمّة آخرون من هذا الكوكب، سياسيون وكتّاب وفنانون وأكاديميون، رفعوا أصواتهم بإدانة ما يفعله الوحش الشرير، وطالبوا بالاقتصاص منه، لكن أحداً ممن بيدهم القرار، أو القدرة على فرض قرار لم يكترث بما يدور.

إلى ذلك، لم تعد أخبار غزّة تجد مكانا لها ضمن “الأخبار العاجلة”، بعدما مات ضمير العالم، ونسي الناس كل ما أنتجته العقول من أفكار وقوانين تعنى بردّ الشرور عن البشر، وسقطت ورقة التوت عن المنظّمة الأممية التي لم تعد تملك سوى إبداء العطف على أطفالٍ يلاحقهم الوحش وهم يبحثون عن لقمة خبز أو جرعة ماء.

يريد نتنياهو إبقاء رفح في قبضته، وتحويلها لمركز اعتقال مئات ألوف من الفلسطينيين تمهيداً لترحيلهم لاحقاً بعيداً عن أرضهم

يحدُث هذا كله وقد تحوّل العمل على وقف النار إلى معضلة، وسمعنا كلاماً كثيراً عن “خطواتٍ عاجلة” لحلها، وجولات تفاوضية تبدأ ولا تنتهي، وعن مفاوضين يروحون ويجيئون بين هذه العاصمة وتلك، وقد بشّرنا الرئيس الأميركي مرّات بسعيه إلى إطفاء النار بوقف قريب، وبدا وزير خارجيته مايكل روبيو متفائلاً، لكنه استدرك لينبئنا بأن “التحدّيات لا تزال قائمة”، وحتى نتنياهو أظهر وجهاً ناعماً أمام الصحافة، وهو يتحدّث عن هدنة الأيام الستين التي لم تتحوّل إلى واقع بعد، ولم ينس أن يتوعدنا بأنه إذا لم يحصل اتفاق على شروطه خلال فترة الستين يوماً سيحارب من جديد إلى أن يغيب آخر طفل غزّي قتلاً، أو دعساً، أو جوعاً، أو عطشاً.

ولا نجد في هذا كله ما يبعث على الاطمئنان، وندرك أنه حتى لو حدث فعلاً وقفٌ للنار في وقتٍ قريب، فان بقاء نتنياهو في موقعه، وتخلّصه مما قد يُحاسبه عليه خصومه في الداخل قد يجعله أكثر شراسة ووحشية، ويدفع بنا هذا كله إلى أن نميل إلى التشاؤم في إمكانية إنجاز حل دائم ومستدام يعطي لأهل غزّة ضمانات العيش بسلام على أرضهم وفي بيوتهم، خصوصاً وأن خطّة نتنياهو الشريرة يريد منها إبقاء رفح في قبضته، وتحويلها لمركز اعتقال مئات ألوف من الفلسطينيين تمهيداً لترحيلهم لاحقاً بعيداً عن أرضهم، وهنا يصبح الحذر مطلوباً من أن تتحوّل الهدنة المنتظرة إلى خطوة عرجاء لا تمتلك مقوّمات الثبات، وربما تجر إلى مفاوضات أخرى، وتدخّلات أخرى، وحتى إلى حروب أخرى، ما يجعل وقائع “اليوم التالي” مجرّد استمرار لما يحصل منذ أكثر من 20 شهراً.

ومع كل ما يجري، أي وقف للنار، ولو كان وقتياً، ولو كان هشّاً، فقد يتيح للغزّيين فرصة التقاط أنفاسهم قبل أن تدهمهم حروب إسرائيل الجديدة، ولا مدعاة للتذكير في أنهم، كما كل أهل فلسطين، اعتادوا العيش في ظل محنة مديدة استغرقتهم 80 سنة عجافاً زخرت بالمرارات والآلام، ووضعتهم مراراً في مواجهة الموت الذي جعلهم أكثر تمسّكاً بأرضهم، وأكثر صموداً في مواجهة تصاريف الزمان.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى