
بحلول العهد الثاني للرئيس الأميركي دونالد ترمب، غدت الدبلوماسية الاقتصادية والمالية حجر الزاوية في سياسته الخارجية، لتتجسد مقولته الشهيرة “اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” في كل تفصيل. حيث قالها للسوريين ولاحقا للإيرانيين خلال الحرب الأخيرة، ولم تعد التصريحات حول الصفقات التجارية والمال مجرد شعارات انتخابية، بل أصبحت نهجا عمليا وواضحا في تعاطيه مع الأزمات الدولية من سوريا إلى إيران، حيث أعلن المرشد الإيراني علي خامنئي دعوته الشركات الأميركية للاستثمار في بلاده وفق منشور للرئيس الإيراني مسعود بزشكيان على “إكس”، كذلك أشار وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في مقال بصحيفة فاينانشال تايمز إلى أن بلاده تركز أيضا على إنهاء العقوبات ومشاركة واشنطن في التعاون الاقتصادي الأوسع، في حين قال الرئيس الأميركي دونالد ترمب إنه يود رفع العقوبات الأميركية الصارمة عن إيران في الوقت المناسب.
وأضاف ترمب، متحدثا للصحفيين في بداية عشاء مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في وقت متأخر من يوم الاثنين، أن الخطوة الأخيرة لرفع العقوبات الأميركية عن سوريا ستساعد دمشق على المضي قدما، معبرا عن أمله في أن تتخذ إيران خطوة مماثلة. وفق وكالة رويترز.
وتابع “أود أن أتمكن، في الوقت المناسب، من رفع تلك العقوبات، ومنحهم فرصة لإعادة البناء، لأنني أود أن أرى إيران تبني نفسها من جديد بطريقة سلمية، لا أن تتردد في ترديد شعارات مثل: الموت لأميركا، الموت للولايات المتحدة، الموت لإسرائيل، مثلما كانوا يفعلون”.
فكيف تترجم واشنطن هذا التوجه على أرض الواقع، وما هي تداعيات هذا التركيز الاقتصادي على المشهد السياسي في المنطقة والعلاقات الدولية؟
سوريا.. بوابة للاستقرار
بدأ المشروع الأميركي لإعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط من غزة وصولا إلى سوريا وإيران، حيث شكّل سقوط النظام المخلوع في دمشق نقطة الانطلاق نحو استقرار إقليمي يمهّد لتنفيذ الممر الاقتصادي الأميركي الذي طُرح في قمة العشرين عام 2023، ويهدف لربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط ويعد منافسا لطريق الحرير الصيني “مبادرة الحزام والطريق” الذي ينطلق من الصين ويعبر المنطقة إلى أوروبا وأفريقيا. وكانت أبرز العوائق هي الصراعات المنشرة في المنطقة في سوريا ولبنان واليمن والعراق وغزة التي تغذيها طهران عبر ميليشياتها.
شهدت سوريا سلسلة من الخطوات الأميركية والدولية لدعم استقرارها بعد سقوط النظام المخلوع، تمهيداً لتحويلها إلى مركز لوجستي واقتصادي في المنطقة. كان أحدثها ولن يكون آخرها رفع هيئة تحرير الشام من قوائم الإرهاب، وسبقها تخفيف تدريجي للعقوبات الأميركية ورفع للعقوبات الأوروبية التي فرضت على النظام المخلوع، وتلا هذه القرارات الإعلان عن استثمارات قطرية وإماراتية وسعودية ودخول تركيا بقوة إلى ملف الاستثمار وإعادة الإعمار.
الصين تدخل مبكرا إلى سوريا
في أيار الماضي، وقّعت الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية السورية مذكرة تفاهم مع شركة “Fidi Contracting” الصينية لاستثمار المنطقة الحرة في حسياء بمحافظة حمص بمساحة 850 ألف متر مربع، وأخرى في عدرا بريف دمشق بمساحة 300 ألف متر مربع. تهدف هذه الاستثمارات إلى إنشاء مناطق صناعية متكاملة ومشاريع تجارية وخدمية تعزز البنية التحتية وتجذب الاستثمارات الأجنبية.
وأفادت الهيئة العامة في بيان أن المذكرة شملت التفاهم أيضاً على منح الشركة الصينية حق استثمار 300 ألف متر مربع من المنطقة الحرة في عدرا بمحافظة ريف دمشق، لترسيخ مشاريع تجارية وخدمية تواكب متطلبات السوق المحلي والإقليمي.
وبحسب البيان، فقد بلغت مدة العقد عشرين عاماً، على أن تلتزم الشركة المستثمرة بتنفيذ مراحل المشروع وفق جدول زمني محدد، بما يضمن تحقيق الجدوى الاقتصادية وتعزيز دور المناطق الحرة كمحرك للتنمية وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
في الوقت ذاته، طرح مشرعون أميركيون في حزيران، مشروع قانون لإلغاء العقوبات المفروضة على سوريا، بما في ذلك قانون “قيصر”. وقال السيناتور الجمهوري جو ويلسون إن رفع العقوبات سيمنح سوريا فرصة للانفتاح على الاستثمار الدولي ويبعدها عن نفوذ الصين وروسيا وإيران.
مع التحول في السياسة الأميركية تجاه سوريا، بدأت الصين بالتحرك عبر أدواتها الناعمة لاستغلال الفرص في سوريا، إذ أجرت بكين محادثات مع مسؤولين سوريين وشاركت 22 شركة صينية في افتتاح الدورة الحادية عشرة لمعرض “تكنوبيلد” الدولي للبناء بدمشق. بينما حصلت شركات صينية على امتيازات استثمارية في حمص وريف دمشق. وتسعى الصين إلى تعزيز وجودها في سوريا عبر مبادرة “الحزام والطريق” التي تركز على مشاريع البنية التحتية والتي سعى النظام المخلوع ليكون جزءا منها.
وأوضحت الصين أهدافها في سوريا بتشجيع الانتقال السياسي وتحسين ظروف المعيشة، مع التأكيد على مكافحة الإرهاب، لكنها تتحرك أيضاً بحذر مع تنامي النفوذ الأميركي.
ورغم أن الصين أعربت عن “تحفظها الشديد” على رفع العقوبات عن “هيئة تحرير الشام”، داعية الإدارة السورية الجديدة إلى “اتخاذ إجراءات ملموسة للاستجابة الفاعلة لهموم المجتمع الدولي“، كشفت مؤسسة”ريتش” للأبحاث في تقرير عام 2022 أن الصين كانت المصدر الخارجي الرئيسي لـ 10 من أصل 17 عنصراً أساسياً ضرورياً لتوفير المأوى في إدلب. وفق بيانات حللتها شبكة “بي بي سي” البريطانية.
هل تكفي الإعفاءات الأميركية لقطع الطريق أمام الصين في سوريا؟
أصدرت وزارة الخارجية إعفاء لمدة 180 يوما من قيود قيصر، على الرغم من أن هناك حاجة إلى قانون صادر عن الكونغرس لإزالتها نهائيا. ودعا توماس باراك، السفير الأميركي لدى تركيا والمبعوث الخاص إلى سوريا، الكونغرس إلى القيام بذلك قبل انتهاء صلاحية هذا الإعفاء.
والشهر الجاري رفعت واشنطن “هيئة تحرير الشام” عن قوائم الإرهاب، واعتبر وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، أن رفع “الهيئة” من قوائم الإرهاب يعكس تقدير الولايات المتحدة للحكومة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع.
وجاء ذلك تماشياً مع وعد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، في 13 أيار، بتخفيف العقوبات المفروضة على سوريا. وبذلك بدأت أبواب سوريا مفتوحة بشكل أكبر للاستثمارات ولطرق التجارة الواصلة إلى الخليج من أوروبا عبر تركيا وبالعكس، مفتوحة بشكل أكبر.
في السياق، حذر معهد واشنطن للدراسات أنه “إذا أرادت واشنطن وأوروبا إبعاد الحكومة السورية الجديدة عن الأطراف غير المرغوب فيها – سواء أكانوا شركاء تقليديين مثل روسيا وإيران، أو شركاء جدداً محتملين مثل الصين – فيتعين عليهم التأكد من أن ضوابط التصدير والعقوبات المفروضة ميسرة بدرجة كافي”.
وأضاف المعهد “إذا لم تتخذ واشنطن خطوات إضافية سريعاً، قد تتمكن أطراف خارجية مثل الصين من التدخل وإعادة إعمار سوريا، ومن ثم، جني المكاسب التجارية والجيوسياسية الناتجة عن ذلك”.
المشروع الأميركي البديل: الممر الاقتصادي الجديد
أطلقت واشنطن وحلفاؤها مشروع “الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا” في قمة العشرين بنيودلهي عام 2023، بمشاركة الولايات المتحدة والسعودية والهند والاتحاد الأوروبي. يهدف المشروع إلى بناء شبكة متعددة الوسائط تشمل سككاً حديدية، وخطوط أنابيب للهيدروجين، وكابلات لنقل البيانات والطاقة المتجددة.
وقال الرئيس الأميركي حينها جو بايدن إن المشروع (IMEC) “صفقة كبيرة حقاً”، بينما أكد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أن المشروع سيعزز التبادل التجاري ويخلق فرص عمل طويلة الأمد. يمر المشروع عبر الإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل قبل أن يصل إلى أوروبا.
وقال مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض جيك سوليفان حينها، إن المشروع سيشمل الهند والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والأردن وإسرائيل والاتحاد الأوروبي.
أما موقع “أكسيوس” العبري، فقد ذكر أن المشروع يهدف إلى ربط الدول العربية بشبكة للسكك الحديدية “يمكن أن تمتد إلى إسرائيل في حال تطبيع العلاقات”، ثم إلى أوروبا عبر الموانئ البحرية الإسرائيلية، بالإضافة إلى روابط بحرية مع الهند.
ورغم الطموح الأميركي الكبير، تعترض المشروع تحديات جيوسياسية معقدة أبرزها الصراعات المستمرة في غزة وسوريا ولبنان واليمن، والتوترات بين السعودية وإيران وهي ما تعمل إدارة ترامب على إخمادها. كما أعربت تركيا عن معارضتها للممر، وأكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنه “لن يكون هناك ممر دون تركيا”، مشدداً على أهمية موقع بلاده الاستراتيجي في أي مشروع تجاري إقليمي، وقد تلعب مرحلة ما بعد الضربة الأميركية لإيران دوار هاما في هندسة سياسة طهران وإنهاء “ممانعتها” للغرب وواشنطن.
وكانت الصين تسير مع إيران بمشروع موازٍ يهدد الطموح الأميركي، إذ وقعت طهران وبكين في وقت سابق اتفاقاً لإنشاء سكة حديدية بطول ألف كيلومتر بين مشهد وطهران، مع خطط لمدها مستقبلاً إلى البحر المتوسط عبر العراق وسوريا ولبنان. هذا الخط لم يعد متاحا عقب سقوط النظام السوري٫ ويشكل هذا الخط جزءاً من مبادرة “الحزام والطريق” الصينية لربط آسيا بأوروبا.
العراق نقطة اشتباك حاسمة
بعد طرد إيران من سوريا يحتدم التنافس الأميركي الإيراني في العراق، حيث تسعى الولايات المتحدة لإخراج إيران من الساحة العراقية كجزء من خطتها لإعادة رسم الخريطة الاقتصادية. ويبرز مشروع “طريق التنمية” العراقي التركي كأحد البدائل العملية للممر الأميركي.
يمتد “طريق التنمية” من ميناء الفاو في الخليج العربي إلى تركيا بطول 1200 كيلومتر، ماراً بمدن عراقية رئيسية مثل البصرة وبغداد والموصل، ليرتبط لاحقاً بأوروبا عبر تركيا. يتميز هذا المشروع بكونه أقل حساسية سياسياً مقارنة بالممر الأميركي، وقد يخفض زمن الشحن إلى أوروبا بنسبة كبيرة، ويمكن أن يكون جزء من الممر الأميركي إذا تم الاتفاق مع أنقرة.
إسقاط “ممانعة” إيران
يمثل ضرب النفوذ الإيراني في العراق وسوريا ولبنان المرحلة الحاسمة في المشروع الأميركي، إذ يستهدف إخراج الميليشيات التابعة لطهران وإضعاف النظام الإيراني داخلياً، تمهيداً لاستكمال “استقرار المنطقة للتجارة”. وتسعى واشنطن بالتوازي مع الحلفاء الإقليميين إلى عزل إيران تدريجياً، وحرمانها من أي منفذ مؤثر على طرق التجارة الجديدة.
كما أن إضعاف إيران أو تغيير سياستها “الممانعة” قد يسهل مرور مشاريع مثل (IMEC)أو يعيد تشكيل طرق التجارة بما يقلل من اعتماد المنطقة على مبادرة الحزام والطريق الصينية.
وجاء الهجوم الإسرائيلي على طهران ومن ثم الضربة الأميركية لتؤثر على مصداقية الصين فإذا كانت الصين تتمتع بعلاقات وثيقة مع إيران، فإن أي صراع قد يضعف نفوذ الصين في المنطقة أو يظهر حدود قوتها في حماية مصالح حلفائها، سيكون في مصلحة الولايات المتحدة. حيث لم تعد أميركا لم ترى الشرق الأوسط كساحة صراع عسكري فقط، بل كممر تجاري عالمي يجب السيطرة عليه عبر الدبلوماسية الاقتصادية، بينما تحاول الصين الدخول إلى نفس الساحة عبر استثمارات استراتيجية. تبدو سوريا والعراق ولبنان وإيران هي محطات الاشتباك الكبرى في هذا الصراع الاقتصادي – الجيوسياسي.
المصدر: تلفزيون سوريا