إن من أعقد المسائل التي تواجه المجتمعات البشرية وهي في سبيلها لبناء ذاتها في خضم العـلاقات الـدولية المتشعبـة والمتزايـدة مسألة السلطـة.. مـن يتحكم فيهـا، ومـن أين تنبـع؟ وإذا كانت المجتمعات الإنسانية قـد تباينت في نظمهـا الاجتمـاعيـة فهي أيضـاً تباينت في نظـرتهـا إلى السلطة أو بعبـارة أصـح في عـلاقـة الجمـاهيــر بالسلطـــة.
والبحث في هـذا المضمـار ليس بالبحث الجـديـد فـإذا كانت الـرأسماليـة كنظـام حيـاتي بنت القــرن التاسع عشر.. وإذا كانت الاشتـراكية وُلـدت في أحضان النظـام الرأسمالي عنـدما وصل إلى قمـة نمـوه والتحامـه، فإن البحث في الـديموقـراطيـة بمفهـوم السلطة وارتبـاط الشعب بالحكـم.. كان أبعـد من ذلك بوضوح، أول ما طُـرح في أثينـا أشهـر مدن الاغـريق.. حيث كانت قاصرة على المواطنين القـلة حسب التـوزع الاجتمـاعي، وحيث كان لهـؤلاء المـواطنين الحـق في منـاقشـة كـافـة الأمـور وإصـدار كـافــة القـرارات مبـاشـرة وفي اجتمـاع عــام.. إلاّ أن تَعقُــد الحيـاة الاجتمـاعيــة وزوال التقسيمـات الطبيعيـة السابقـة جعل البحث في هـذا الأمـر يـزداد تعقيـداً.. إن سؤالاً أساسيـا يُطـرح على الـرجل الإغـريقي عن كيفيـة تطبيق الديموقراطيـة، يستطيـع أن يجيب عليـه ببساطـة تامـة، أن يـراهـا تحل كمـا هي في واقعـه بالسماح للمواطنين أن يخططوا ويشرعـوا النظـم والقـوانين.. إلاّ أن وقفـة بسيطة عنـد كلمـة الجمـاهير توضـح السبب في بساطـة الجـواب وفي التعقيـد المتـزايـد لهــذا الســؤال.
إن القـوانيـن الاجتمـاعيــة في المجتمـع الإغـريقـي كانت تُـقسـم المجتمـع إلى قلـة يُطلق عليهــا اسـم المـواطنين وأغلبيـة ساحقـة تشكل العبيـد.. ليس لهــا من الحقـوق شيئـاً.. والأمـر لا يختلف كثيـراً عنـد الإنسـان الاسبـارطـــي.
ولقـد أعطى النظـام الاقطاعي الحـرية والسيادة لطبقـة الاقطاعيين ورجال الـدين، فكانـوا المجتمع شـاء أم أبى، لأن طبيعـة الاقطـاعيـات في ذلك المجتمـع تسمـح بشكل واسـع بمثـل هـذا التصــور.
إلا أن الأمـر يختـلف كثيـراً عنـدما ننتقـل إلى المجتمـع الرأسمالي كمجتمع تميـز بحركتـه الشديـدة وحكمتّـهُ القـوانين ((الطبيعيـة)) وانطلـق في ميـدان العـلـم الإنساني بأوسع ما تصوره الفكـر الإنساني في يومنـا هـذا لذلك رأينـا أن نطـرق موضـوع الديموقراطيـة بشكل مفصل في كلٍ مـن الفكـر الـرأسمالـي وتطـوراتـه والفكـر الاشتراكي حتى نصل أخيـراً الى الديموقراطية في الثـورة العـربيـة فكـراً وتطبيقـاً..
وعلى هــذا الأسـاس فسـوف يُقسـم هــذا البحـث إلــى:
1- الديمقراطية الليبرالية؛ 2- الديموقراطية في الفكـر الماركسي؛ 3 – الديموقراطية في الثـورة العربيـة
أولاً: الديموقـراطيـة الليبـراليــة:
إن ظـاهرة مـا في المجتمع لا يمكن دراستها دراسة واعيـة إلا ضمن شروط قيامها وقوانين حدوثها ولعلنـا نستطيع في العلوم الطبيعية أن نفصل الحـوادث والمؤثـرات بشكل سهل، وأن نـدرس الظـاهرة متبنين أسلوب التجـريـد كامـلاً.. إلاّ أننـا في العلـوم الإنسانية لا بـد لنـا من أن نأخـذ الظـاهرة وندرسهـا من كافـة جـوانبهــا ومـؤثــراتهــــا.
ولقـد حكـم النظـام الـرأسمالـي منـذ نشوئه قـوانين أساسيـة، سـار عليهـا المجتمع الرأسمالي فـوصل الى ما نـراه الآن، وكانت لـه ايجـابيـاتـه وكثُـرت فيـه سلبيـاتـه.. فمـا هي هـذه القـوانين وكيف أعطت للديموقـراطيـة صفتهــا المحـــددة؟
قوانين النظـام الرأسمالــي الأساسيـــة:
أمـام كل العقبـات التي كـانت تحــد مـن حـركـة الـرأسمـال بشكليـه الثـابت والمتحـول، وبمفهـوميـه الرأسمالي والاشتراكي، تحركت القوى الاجتماعية الفعالة في ذلك الوقت لتكسر هـذه الحدود.. وكان لا بـد من الاستناد الى العلـم ودراسة الـواقـع على ضوئه حتى تستطيـع أن تصل إلى مبتغـاهـا في إمكانيـة الحركة لتحقيق الربح وكانت نتيجة هـذه الدراسة أن استخلصت قانونين أساسيين اعتقدت أنهما يوجهـان النشاط الإنساني.. ولا يستطيـع الإنسان بكل نشاطـه ووعيـه أن يتجـاوزهمــا وبشكل أعــم أن يتجـاوز كل القـوانين سواء منهـا الفـرعي أو الأساسي لأنهـا من طبيعـة الإنسان، ولا يمكن للفـرد أن يخـرج عن طبيعتــه.. هــذان القـانـونــان همــــا:
– الحــرية: إن البحث عن الحـرية من طبيعة الفـرد الإنسانيـة، والحرية بكافـة اتجاهاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعيـة هي هـدف الإنسان الأول.. وإذا أردنا أن نبحث عن مفهـوم مبسط للحـرية في النظـام الرأسمالي لوجدنا أصدق تعبير لهـا عند مفكري ذلك النظام في الشعار المطروح (دعه يعمل دعه يمـر) وأن مفهـوم الحـرية هـذا مأخـوذ بشكلـه المجـرد، ويعطي على أرض الـواقـع الفعلي قوانين عـدة في حـرية العمـل والتمـلك والتصــرف…
– المصلحة الفـردية: وإذا كان الإنسان يبحث عن الحرية، وإذا كان الإنسان يبحث عن العمل فإنما ذلك تحقيقـاً لمصلحته الفردية، وتأميناً لما يـراه الأفضل لوضعه وامكانياته، وأن كافة القوانين في هـذا النظـام، موجـودة بالضرورة، وتـدفـع الإنسان إلى تطبيقهـا بصورة عفوية وبدون أن يدري أنه يطبقها، أو أن يكون لـه الخيــار في ذلك.
إن صورة الديموقراطية في المجتمع الرأسمالي التي نراها اليوم تشكل قمة في التطور الديموقراطي الرأسمالي.. فلقـد كانت الحريات السياسية في البـدء- ونتيجة للقوانين السابقة – معطاة لأقلية في المجتمع وذلك بإثقالهـا مادياً بشروط لا تتـوفـر إلاّ عند طبقـة معينة.. ولقـد حطم هـذه الصورة نضال الجمـاهير الكادحـة.. إن مقتل الديموقراطية الـرأسمالية أنهـا ألغت الحـريات السياسية وعجـزت عن إلغـاء الحـرية الاجتماعية، وإذا قصر العقل الرأسمالي عن استيعـاب قـوانين التطـور البشرية وتجاهلهـا فإن ذلك ليس حـدثاً طارئاً أو مفتعلاً، و إنما هـو من طبيعة النظام الرأسمالي و طبيعة قوانينه، و أن الدولة التي أرادها دولـة تنظيـم و ادارة، لا يمكن أن تكون كـذلك في ظل مثل هـذه القـوانين لأن مـن يملك لا بـد لـه مـن أن يُسخـر كل معطيـات البقــاء في خدمـة مصالحـه.. لقـد عكس المجتمـع قـوانينـه على الديموقراطيـة فكان الانتخاب المباشر و البرلمانات، و تُشكل الأحزاب الصورة الواضحة لذلك، و لقد مثل كل حزب من تلك الأحـزاب طبقة من طبقات المجتمع، و إذا كنا نؤيد بعض الأحزاب العمالية في البلد الرأسمالي، فان ذلك يجب أن لا يخدعنـا مـع كل الانتصارات التي تحققهـا، و ذلك أن حـق الأحـزاب تبقى طليعة في حركتهـا السيـاسية و الاقتصاديـة ما دامت لا تشكل خطـراً أساسيـاً على النظـام الرأسمالي و أن الانتصارات التي حققتهـا هـذه الأحـزاب على مستوى المكاسب الاقتصادية أو السياسية نتيجة الضغط المتصاعد للجمـاهير الكادحة فرض على أعمدة النظام السماح لهـذه الأحزاب بالتحرك عبر الخط و بأخذ بعض المكاسب.. إن العقل الإمبريالي عاجـز عن معرفة حـركة التاريخ والسير وفقها، ولقد خُدعت بعض الأحزاب العمالية وبعض المفكرين الاشتراكيين حين اعتقـدوا أنـه من الممكن الوصول إلى النظـام الاشتراكي عن طـريق الديموقراطية الرأسمالية وذلك بتوسيع القـاعـدة الجمـاهيرية التي تستطيع عندئـذ أن تفرض ممثليها على السلطة التشريعيـة ويتغيـر عند ذلك كل النظـام.. وننتقل عندئـذ سلمياً إلى الاشتراكية عن طريق أجهزة النظـام الـرأسمالـــــي.
إن هـذا التصور قـاصر و سطحي، ذلك أن أي تهديـد لمصالـح النظـام الرأسمالي يعني أن يقف بكل أسلحتـه و قوته ليحطـم من يهـدد و يهـز مصالحه، و أن أمثلة واضحة على ذلك لا تزال ماثلة للعيان في كل من إسبانيا و اليونان و غيرهما؛ و لقد حلل الميثاق الوطني الديموقراطية الرأسمالية، و كشف زيفها، و خداعها، و وضح كيف أنهـا بوجهها الحقيقي دكتاتورية الطبقات الرجعيـة، ترفعهـا في وجه الجمـاهير و مصـالحهـا، حيـن قـال إن فقـدان الحـريـة الاجتمـاعيـة لجمـاهيـر الشعب سلب كل قيمـة لشكل الحـرية السياسيـة التي كانت قـد تفضلت بهـا عليهـا الرجعيـة المتحكمـة.. إن الـرجعية لـم يكن يُضيـرهـا أن تفتح مُتنفساً للسخط الشعبي؛ ما دامت تملك جميـع أجهـزة التـوجيـه… إن حـق التصويت فقـد قيمتـه حين فقـد اتصالـه المـؤكد بالحق في لقمـة العـيش… إن الديموقراطيـة على هــذا الأساس لـم تكـن إلا دكتـاتـوريـة الرجعيـة.. ولقـد وجهت النظام الحـر، المصالح الضرورية المتصارعـة، وقامت النزعات الفردية على أوسع نطـاق فتجـاوزت بذلك الطـابـع الإنساني – حيث لم يبّـق من حساب إلاّ للعقـول الإليكترونية تحسب كميـة الربـح وسرعـة الحـركة – وعجـز أمتها وقصورها ودور الإنسان في إيجاد هـذا التقـدم الهـائل المتشعب لخـدمـة هــذا الإنسان في هــذا المجتمــع.
إن ديموقراطية الرأسماليين فكـراً وتطبيقـاً تُظهـر عجـزاً كبيـراً في إعطـاء الإنسان حريتـه الحقيقية ذلك عندما اعتمدت على قوانين – أخطـأت خطـأ لا بـد من وقوعهـا بـه – لـم تثبت صحتهـا لا في واقـع الواقــع التطبيقــي ولا في واقـع التحليــل النظــري.
إن إدراك الانسان ووعيـه جعـلاه يحـرق مـراحل أساسية في تطـور المجتمعـات ويتجـاوز قـوانين النظـام الرأسمالي التي حسب مكتشفوهـا أنهـا أبديـة، وأن هـذا النظام هـو نهـاية مطـاف البشريـة.. كمـا أن الواقع أثبت نقصاً هائـلاً في هـذه القوانين عندما أُعطيت الحـرية السياسية كشيء مُجـرد مبعـداً إياهــا عن واقـع الحيـاة الاجتماعية وتعقيداتها، ومُظهرة فصلاً أساسياً بين واقع الحياة وتصرفات الفـرد.. إن واقع الحيـاة أثبت ويثبت أن من يملك هـو من يحكم، وأن لقمة العيش لا يمكن أن يتخطاها رأي سياسي فعــال أو قانــون مـؤثــر.. إن فصل الحـريـة السياسيـة عن الحـريـة الاجتماعيـة كان المطعن القـاتـل في الديموقراطيـة الـرأسماليـة ولقــد زال هـذا الفصل مثـل الديموقراطية من واقـع الحيـاة العمليـــة.
إن القـوانيـن النظـريـة التي تحكـم النظـام الـرأسمالـي، والـديموقراطيـة فيــه، نسفت نفسهـا بنفسهـا، فالمزاحمة أدت الى الاحتكار مما خلف وراءه دولـة لا ترعى مصالح البورجوازية كلها، و إنما لقمّة هذه الطبقة التي تضع يدها على مواقـع الاحتكار و لـم تعـد الحـرية بكل أبعـادها بالأمـر الذي يُذكر، فإن تقدم العلم و الحضارة و المعرفة جعـلا توجيهها يتوقف على جهة واحدة هي خدمة هـذه القمّة الاحتكارية مما جعل على الصعيد الديموقراطي، موضوع حرية الانتخابات و حرية الرأي مهزلة إنسانية، فالدعاية تقود الإنسان أو تحاول حيث تريد، و الثقافة و التوجيه و العلم و الأدب و الفن موجّه هذه الجهة.. وليس أمراً غريبـاً ولا طـارئاً أن تكـون السلطـة في الولايات المتحدة الأمريكية كـرة تُقـذف من الحـزب الجمهوري لتحط بين أقـدام الحـزب الـديموقراطــي أو بالعكس.
ولقـد اتخـذت الـديموقراطية البورجوازيـة في بعض المـواقـع شـكلاً متخفيـاً أو فـرقت قـانـونيـاً بين الإنسان والإنسان وأقامت الحواجـز البيولوجية والفكـرية، وشادت النظـريات لدعم هـذه التفـرقة، فقـد ارتفـع صوت الفاشيين للدعـوة في المجتمـع ولدورهـم في قيـادة رعـاع الأمـة كمـا وتـردد هذا الصوت مـجدداً في مناطق كثيـرة من العالـم حيث يوجـد الانسان الأبيض قـائـداً وموجهـاً على طـريق التطـور.. ولعـل أروع مثل لهـذا التفكيـر الشـاذ في أسلـوب العمل السياسي قـد أورده الميثـاق الوطني في صياغـة تحليليـة متكاملة حين قـال (لا معنى للعمل السياسي عنـدمـا تتكون قلـة من النـاس بمعـزل عـن الشعب).
لقــد حكـم الـواقـع على الديموقراطيـة الرأسماليـة بالقصور، وحكـم عليهـا بالخطـأ والانحـراف، وحكـم عليهـا نتيجـة لـذلك بالـزوال.. فإلى أيـن وصلت الديموقراطيـة في غيـر النظـام الـرأسمـالي؟