
لو أتيح لنا النظر الى المشرق العربي من الفضاء نظرة شاملة وعمومية لرأينا عملية فرز طائفية شاملة وإعادة توزيع لسكان المنطقة وأقوامها على أساس ديني مذهبي . هذه العملية الكبيرة التي تشمل العراق ولبنان وفلسطين تعني أمرين محددين بالغي الأهمية :
أولهما أن جميع المكونات مستهدفة , مسلمين ومسيحيين من كل المذاهب .
ثانيهما : أن المدبر واحد بالضرورة , لأن العملية تتم بشكل منسق وجماعي . والمدبر الواحد هنا لا يتنافى مع كون المنفذين متعددون , بل يعني أن صاحب الأمر , والمخطط ( بكسر الطاء) .. أما الآخرون فهم أدوات وحسب .
على ذلك فإن تركيز النظر على العنصر المسيحي ضمن المشهد ينطوي على مغالطة تضر ولا تفيد لأنها تموه المخطط وحقيقته ومراميه النهائية . ولا يقل عن هذه المغالطة المنهجية ضررا تصوير الحدث كأنه حملة ينفذها المسلمون بحق اخوانهم المسيحيين في العراق أو سوريا .
ومثله ايضا تجاهل ما حصل للمسيحيين في فلسطين منذ الاحتلال اليهودي , وفي لبنان منذ الحرب الاهلية في السبعينيات لأن عناصر الوحدة والشبه بين هذه الاحداث كافة في عموم المنطقة متوافرة .
والغريب أنه ثمة فئات مسيحية وضعت نفسها في خدمة هذا المخطط الذي يستهدف وجودها بطريقة غبية ومشبوهة رغم ما تظهره من نواح وبكاء على مصير المسيحية المشرقية , ورغم ما تظهره من انتماء ثابت وراسخ لصفوف القوى الوطنية الديمقراطية المنضوية في الربيع العربي , وقد لاحظت أن منظمة تصطف ضمن القوى السورية المعارضة كالآشورية الديمقراطية نظمت حملات في عواصم الغرب تركز عناوين لافتاتها على الاضطهاد الذي يتعرض له مسيحيو الموصل من المسلمين المتطرفين .. وفقط . وبدهي أن في هذه العبارة مغالطات متعددة لا تخفى على العقلاء المنصفين , لكنها تنطلي على المواطن الغربي العادي الجاهل بفسيفسائية المشرق العربي وتاريخ التعاون والتفاعل بين المسيحيين والمسلمين عبر عصور الحضارة المشتركة والذي لا يعرف أن مفهوم التسامح ( The concept of tolerance ) الذي يتباهى الغربيون به في العصور الحديثة إنما تبلور وانتقل من الشرق الى الغرب في القرون الخمسة الأخيرة وهو مفهوم اسلامي أصيل على ما يقول احد المؤرخين الامريكيين البارزين .
هناك محاولة لدى البعض وخاصة في الاعلام الغربي لتصوير داعش كممثل شرعي للاسلام والمسلمين وهذا محض افتراء واتهام باطل كما يعلم الجميع , لأن داعش لم تخلق أصلا إلا لقتال المسلمين وللإساءة للاسلام ولتنفيذ المخطط الطائفي , أما قتال المسيحيين فجاء كحادث سير على طريق الهدف الاصلي , ولا حاجة للتذكير بإن الدواعش قتلوا اضعاف اضعاف ما قتلوا من المسيحيين أو العلويين أو اليزيديين أو الأكراد مجتمعين , وكذلك لا حاجة للتذكير بأن من قاوم الدواعش هم المسلمون وليس أحدا سواهم , وهم من أجلوهم عن حلب وادلب ودمشق وحمص , بينما تتوافر وتتكاثر الادلة على تورط من يدعون الشفقة على الاقليات وفي مقدمهم نظام الاسد وحلفاؤه الاقليميون والدوليون في مخطط الفتنة لأهداف استراتيجية كبرى لا تخدم سوى اسرائيل الدولة التي قامت على العنصر الديني وتحاول التكيف مع جوارها بسعيها لاقامة كيانات طائفية دينية وباتباعها لاستراتيجية حماية الاقليات ولعب دور الحليف الأول والأكبر للأقليات المحلية بما فيها الشيعة والدروز المسلمتين الاصيلتين .
في ايلول /سبتمبر الماضي حدثني كاهن مسيحي ارثوذوكسي منشق عن كنيسته في سوريا ومعارض لنظام الاسد عن ضغوط روسية على الكنائس الارثوذوكسية في سوريا لمغادرة سوريا على الفور وارسال سفن يونانية الى موانىء لبنان لنقلهم بشكل جماعي , وقال لي الكاهن : لم يكن هناك ما يبرر عملية الخروج بهذه الطريقة سوى مصلحة روسيا لاثارة الفتنة وتشويه الثورة السورية المعادية لنظام الاسد المحمي من روسيا . وهناك الآن أدلة كثيرة على سياسات طائفية تنتهجها دول كبرى كألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة هدفها الضغط على مسيحيي سوريا والعراق للهجرة من بلادهم الى الغرب .
ولا بد من الاشارة الى مسألة غاية في الاهمية عمقت التوترات بين عنصري الامة المسلم والمسيحي وهي مواقف زعماء ورموز الطوائف المسيحية عموما مع الانظمة الديكتاتورية التي ثارت شعوبنا ضدها , فعندما نتحدث عن مظاهر عداء للمسيحيين في العراق وسوريا لا بد أن نعترف بأن المواقف الخاطئة لعدد غير قليل من رجال الدين المسيحي في سوريا ولبنان بل وفلسطين تأييدا لأل الأسد في سوريا مثلا تلعب دورا سلبيا وتوتر الأجواء, وكان بعضهم شكل كتائب مسلحة لقتال المسلمين أو بالأحرى لمواطنيهم السوريين المشاركين في الثورة . وهناك بعض منهم اتصل بالعواصم الغربية منذ الشهور الاولى للثورة في عام 2011 يطلب من قادتها العمل على اقامة كانتون مسيحي في سوريا تحت الحماية !!
مخطط التقسيم الطائفي بدأته اسرائيل ورعته طوال تاريخها , وتوحي سياسة الولايات المتحدة في العراق وفي فلسطين أنها لا تعارض هذا المخطط بل تدعمه لا سيما في العقد الأخير , وثمة مؤشرات قوية على أن إيران انضمت لهذا المخطط لأسباب تتعلق باستراتيجيتها لاحتواء المنطقة وخلخلة تركيبها القومي واعادة تركيب الهياكل الاجتماعية والسياسية في البلدان المنطقة لترجيح كفة نفوذ الطوائف الشيعية خدمة لمصالحها لا مصالح الشيعة . واعتقد أن المستهدف من هذا المخطط هم عرب المنطقة مسلمين ومسيحيين , بل إن المسلمين هم المستهدفون قبل المسيحيين , ولا أنسى رؤية المرحوم كمال الصليبي الذي نفى بشدة أن يكون للمسلمين العرب أي دور أو يد في اضعاف الوجود المسيحي , ولا أنسى ايضا أن رجل دين لبنانيا يصنف ضمن المتطرفين هو أحمد الاسير قال في تظاهرة في مارس 2012 في بيروت : نرجوكم أيها الاخوة المسيحيون لا تهاجروا فنحن بحاجة لوجودكم معنا هنا !!
*****************************************
هذا المقال منشور في العدد 235 من مجلة الشراع اللبنانية الصادرة في بيروت بتاريخ 8 / 8 / 2014 .