لماذا لا نصبح مثل الدول المشابهة لنا؟

رشا عمران

أعيش حياتي بين القاهرة ومارسيليا بعد حصولي، أخيراً، على إقامة فرنسية تأخرت أكثر من عقد من الزمن؛ قد يكون العيش في فرنسا لامرأة مثلي وفي سني هو أفضل الحلول مع حالة الأمان الصحي وزمان الشيخوخة التي يحصل عليها المواطنون والمقيمون هناك، لكنني خلال السنوات الـ14 الماضية أسست حياة لي في القاهرة، أسستها من الصفر حرفياً، بنيت علاقات وصداقات متينة، ارتبطت بمصر برابطة دم حقيقية، حيث نقل لي دم مصري خلال عملية جراحية خطيرة في القلب.

كذلك، خضت في مصر تجارب حياتية وإبداعية مذهلة جعلت من علاقتي بها علاقة خارج تصنيف اللاجئ وبلد اللجوء، وخارج تصنيف الضيف والبلد المضيف، وهدا أمر ليس بيسير أن تتخلى عنه من أجل العيش في بلد آخر، لا بأس، هذه هوامش رأيتها ضرورية للوصول إلى متن ما أود قوله هنا.

مصر بلد إسلامي بكل معني الكلمة، سواء في القوانين أو في تركيبة المجتمع المصري، الفكر السلفي يكاد يكون هو الطاغي بسبب انتشاره في الأقاليم التي تشكل الجزء الأكبر من مصر، مصر ليست القاهرة والإسكندرية فقط، غير الخاليتين أيضاً من حركة سلفية يمكنك أن تكتشفها حتى في المؤسسات الرسمية.

هذا الفكر السلفي يحاول دائماً أن يصبغ المجتمع المصري بصبغة ذكورية تظهر في التحرش والاعتداء علي النساء والتمييز ضدهن عند أي خلاف بين رجل وامرأة، تظهر أيضاً في التربية المنزلية وفي المدراس وفي الجامعات، وتحاول كثير من النساء تكريسه جنباً إلى جنب الذكور، في حالة يسمّيها علم النفس بمتلازمة استوكهولم، وهي متلازمة تتماهى فيها الضحية مع جلادها إلى حد الدفاع عنه وتقمّص سلوكه وأفكاره.

تخيّلوا لو أن الحكومة المصرية أصدرت قوانين (ذكورية) خاصة بالسياحة، مثل منع الكحول أو منع ارتداء ملابس مكشوفة سواد في الشواطئ العامة أو الأماكن السياحية، أو لو وضعت شرطة سياحية بعناصر غير مدربة على مفهوم السياحة أو عناصر تؤمن بتكفير الآخر المختلف وتبيح قتله..

وهذه المتلازمة، بكل حال، تكاد تكون شديدة الوضوح لدى كثير من النساء العربيات المعنفات اللواتي يعدن إنتاج العنف نفسه ضد بنات جنسهن، أو يربين أبناءهن الذكور ليكونوا جلادين ضد أخواتهم وزوجاتهم وبناتهم وكل النساء اللواتي يصادفونهم في حياتهم.

هذه السيطرة للفكر السلفي الذكوري يمكنها أن تكون عامة في مصر ويمكنها السيطرة بسهولة على المجتمع لتطبعه بطابعها، لولا أن هناك توازنات سياسية واقتصادية ومجتمعية تحد كثيراً من تمدد الفكر السلفي في المجتمع المصري.

أول هذه التوازنات هو الاقتصاد، فجزء كبير من الاقتصاد المصري يعتمد على السياحة التي لا تنعكس فقط على موارد الخزينة المصرية، بل أيضاً على معيشة عدد هائل من المصريين من العاملين في هذا القطاع بالغ الأهمية في مصر.

ثمة تنوع هائل في مصر من حيث الطبيعة الجغرافية، فيها بحران (المتوسط والأحمر) يتبادلان الموسم السياحي صيفاً وشتاء، وهناك نهر النيل العظيم، وهناك صحارى بالغة الجمال، وهناك طبعاً آثار مصر القديمة العظيمة التي حيّرت العلماء حتى اللحظة؛ الأمر الذي يجعل من مصر قبلة للسياحة من كل العالم.

تخيّلوا لو أن الحكومة المصرية أصدرت قوانين (ذكورية) خاصة بالسياحة، مثل منع الكحول أو منع ارتداء ملابس مكشوفة سواد في الشواطى العامة أو الأماكن السياحية، أو لو وضعت شرطة سياحية بعناصر غير مدربة على مفهوم السياحة أو عناصر تؤمن بتكفير الآخر المختلف وتبيح قتله، تخيّلوا لو أن دولة مثل مصر فيها فئات كبيرة جداً من المجتمع تؤمن بكل هذا، أصدرت قوانين تتماهى مع شعبوية المجتمع! سينهار الاقتصاد المصري وسيحرم ملايين المصريين من مصدر عيش تكفله السياحة.

لو ذهبت إلى أي مدينة سياحية على البحر الأحمر أو حتى في الساحل الشمالي على المتوسط، لوجدت كل ما يخطر في بالك، هنالك نساء مصريات وغير مصريات، بلباس السباحة الفاضح والعادي والبوركيني، وهناك نساء يعمن بملابسهن، وستجد من يشرب الكحول ومن يصلي، من يسمع القرآن الكريم ومن يسمع أغاني المهرجانات، هناك متسع لكل شخص لفعل ما يريد من دون أن يشكّل هذا عبئاً على قناعات الآخرين، ذلك أن دورة الاقتصاد هي حجر الأساس الذي يدور حوله الجميع، وهو ما يدركه المصريون، حتى السلفيون منهم.

حتى في المدن الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية ستجد كل شيء، هنالك أماكن للسهر وبارات كحول ومطاعم مرخصة لتقديم الكحول يذهب إليها جميع الفئات، وهناك أماكن يُمنع فيها الكحول يذهب إليها من يخشى على نفسه من الذنوب والمعاصي.

وهنا أود أن أقول إنّ القصد مما سبق هو التنويه إلى الانفتاح العام الذي يتيح لبلد مثل مصر أن تستقبل السياح من كل العالم، هذا الانفتاح لا يمكنه أن يطبق على أماكن سياحية ويحرم عن غيرها، حتى الفنادق التي تملكها الدولة فيها هذا البراح الكبير من الحرية حين يتم التعامل مع السياحة، وهذا بطبيعة الحال ينعكس أيضاً على فئات كبيرة جداً من المصريين الذين اعتادوا على كل مظاهر الانفتاح فلم يعد هذا مستفزاً لهم ولا مثيراً لحساسية المجتمع، إلا على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي لا تعبر عن حقيقة الشعوب بطبيعة الحال.

في مدينة مارسيليا المتوسطية، ثمة شأن آخر، القوانين الفرنسية قوانين تشبه المجتمع الليبرالي الحر، لكل شخص حريته في اللبس والسلوك واختيار شكله الجنساني واختيار شريكه الجنسي، ما يعني أن ثمة قوانين صارمة تمنع الاعتداء على الآخرين، وتمنع التنمّر الذي يدرج تحت بند العنصرية أو التطرف.

في مارسيليا أكبر جالية مسلمة، كما أنّ عدد المسلمين فيها يتفوّق على باقي الأديان الأخرى، الطقوس الإسلامية فيها ظاهرة بوضوح، خصوصاً في شهر رمضان والأعياد، حيث يمكن للمسلمين القيام بأي احتجاج على نمط الحياة الغربي في مارسيليا بسبب كثرة عددهم، لكن في مارسيليا وخلال رمضان ستجد مثلاً مطاعم تقدم وجبات الإفطار إلي جانب الكحول.

لو ذهبت إلى الشواطئ العامة لوجدت كل ما يخطر في بالك من أشكال السلوك البشري، نساء محجبات أو منقبات يجلسن على الرمل مع أزواجهن وأولادهن إلى جانب نساء نصف عاريات من دون أن يشكّل هذا أية مشكلة لأحد؛ لا يعتبر المسلم الفرنسي أن جسد الفتاة العاري من الأعلى يشكّل خطراً على إيمانه أو دينه، أو خطراً على أبنائه وبناته.

ينبغي القول هنا أيضاً إن جزءا رئيسيا من ميزانية بلدية مارسيليا يأتي من السياحة، حيث تعتبر مارسيليا درة الجنوب الفرنسي ذي المناخ المتوسطي المعتدل، كما تعتبر مدينة مختلطة بين الشرق والغرب لكثرة عدد الفرنسيين من أصول عربية فيها.

وربما من المفيد أيضاً القول إنّ كثر جدا من السوريين يعرفون أن ما ذكرته عن مارسيليا وعن مصر يوجد مثله وأكثر في معظم المدن التركية التي يحكمها الآن حزب ينتمي إلى الإسلام السياسي، لكن المنظومة الفكرية للدولة التركية تدرك أنها لو أرادت فرض قوانين الفكر الديني على المجتمع هذا سيحرم تركيا من مصدر هائل للدخل يتمثل في السياحة، وسيُحدث شرخاً في المجتمع التركي الذي اعتاد علي حرية الملبس والعيش والسلوك.

الآن، نحن أمام ثلاثة أمثلة عن مجتمعات مسلمة، وجدت أن الدخل القادم لها من السياحة يسهم مساهمة كبيرة في دعم ميزانية دولها، ومصدر دخل لفئات وشرائح عديدة من مواطنيها، لهذا تكيّفت هذه المجتمعات مع متطلبات قطاع بالغ الأهمية مثل قطاع السياحة، وساعدت على تطويره متخلية عن كثير مما نشأ عليه أفرادها، ذلك أن الذكاء الفطري الإنساني يوجّه البشر نحو ما يُحسّن طرائق عيشهم، ويجعل من حياتهم أكثر استقراراً وأماناً، وهو ما يتطلب مرونة كبيرة بين القناعات الشخصية التي يمكن أن يمارسها المرء بينه وبين نفسه، وبين المصلحة العامة للبلاد والمجتمعات.

تتمتع سوريا بمناخ رائع، تتوافر فيه أربعة فصول بامتياز، تتمتع بشاطئ متوسطي طويل وبديع قريب من غابات بالغة الكثافة والخضرة، تتمتع بوجود جبال تصلح شتاء لكل أنواع الرياضات الشتوية، وتصلح صيفاً للاصطياف، تتمتع بوجود بادية وصحراء بديعة، تتمتع أيضاً بإرث حضاري قديم ما تزال شواهده باقية ومتوافرة بكثرة، تتمتع بوجود مدن قديمة عريقة في قلب مدنها الحضرية الحديثة، تتمتع بتنوع إثني وعرقي وديني يتيح لها تنوعاً ثقافياً جاذباً، تتمتع بثقافة موسيقية كانت نقطة جذب للعديد من المهتمين من حول العالم، تتمتع أيضاً بسمعة مطبخ متنوع وثري وفخم بات علامة حقيقية في المطابخ العالمية، تتمتع سوريا اليوم أيضاً بكادر بشري استطاع التعرّف على ثقافات معظم بلاد العالم واكتسب مهارات ممتازة في العلاقات العامة وفي التسويق وفي اللغات المختلفة.

هدا كله يجعل من سوريا، إن توفّرت الإرادة والرغبة، مقصداً سياحياً ممتازاً، ما يوفّر دخلاً سنوياً مهولاً لخزينة الدولة، ويضمن لأعداد كبيرة من السوريين مصدر دخل شهري من العمل في قطاعات مختلفة من السياحة، لكن لا بد لذلك من وضع خطط من قبل مختصين بهذا المجال الذي ينبغي أن لا يُترك لعشوائية القرارات ومزاجيتها وانحيازها للشعبوية الدينية المتطرفة.

ينبغي أولاً استعادة الأمان للسوريين جميعاً، استعادة الثقة بأن الدولة هي دولة الجميع، لا دولة طائفة ولا فئة، وينبغي اعتماد الشفافية في كل القرارات الصادرة، الشفافية التي توضح للسوريين حقيقة من يحكم البلد فعلاً..

ينبغي أولاً إصدار قوانين مباشرة تمنع دخول الفصائل أو الأمن الداخلي إلى المطاعم والبارات الممتلئة بالزوار، وفي حال مخالفة المنشأة لقوانين الترخيص يتم التعامل مع المالك عبر طرق قانونية لا عبر اقتحامات مسلّحة كما يحدث حالياً، ينبغي أيضاً التراجع عن كل التعليمات الخاصة باللباس في الأماكن العامة السياحية للنساء والرجال، ومنع عناصر الأمن والفصائل من التدخل بذلك ومنعهم من الاقتراب أصولاً من أماكن السياحة.

ينبغي تدريب كوادر شرطية سياحية بحسب المواصفات العالمية (لتكن مواصفات تركية أو سعودية في الوقت الحالي)، ينبغي وضع الخطط لإعادة تأهيل الأماكن السياحية والأثرية، ووضع خطط ودراسات لاستثمار المناطق السورية الصالحة للسياحة عبر مستثمرين محليين -لا عبر تأجير تلك المناطق أو بيعها لمستثمرين عرب أو غير عرب- بما يضمن حصة المواطنين من هذا القطاع ويضمن حصة الموازنة العامة منه.

كذلك ينبغي إعادة النظر في وضع الفصائل المؤدلجة والمتطرفة المنتشرة بأسلحتها والخارجة عن السيطرة والتي تروّع المواطنين والزوّار في غير مكان من سوريا، ينبغي أولاً استعادة الأمان للسوريين جميعاً، استعادة الثقة بأن الدولة هي دولة الجميع، لا دولة طائفة ولا فئة، وينبغي اعتماد الشفافية في كل القرارات الصادرة، الشفافية التي توضح للسوريين حقيقة من يحكم البلد فعلاً، هل هي الدولة وحدها أم هناك صراع داخلي يسمح لكل طرف باستئثار إصدار قرارات تتناسب مع أهوائه بعيداً عن مصلحة الدولة ومصلحة المجتمع ومصلحة المواطنين.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى