عن فشل الديمقراطية التوافقية في تونس

محمد خليل برعومي

منذ اندلاع الثورة التونسية في 2011، كانت الآمال معلّقة على بناء ديمقراطية حقيقية تنهض بالحقوق والحريات وتؤسس لمشاركة شعبية واسعة. ولتفادي الصراع والانقسام، اختارت النخبة السياسية التونسية ما يُعرف بالديمقراطية التوافقية، في محاولة لإيجاد أرضية مشتركة بين الفرقاء، خصوصاً بين الإسلاميين والعلمانيين. وبعد أكثر من عقد، يبدو أن هذا النموذج لم ينجح في تعزيز ديمقراطية مستقرّة، فماذا حدث؟ ولماذا فشلت الديمقراطية التوافقية؟ وهل من طريق للعودة إلى المسار الليبرالي؟

ساعدت الديمقراطية التوافقية، التي تقوم على مبدأ تقاسم السلطة بين مكوّنات سياسية متنافرة، تونس في تجاوز اللحظة الثورية الحرجة، فقد مثّل التوافق بين حركة النهضة وحزب نداء تونس ركيزة لصياغة دستور 2014، وقيام حكومات ائتلافية ساهمت في منع البلاد من الانزلاق إلى الفوضى أو الحرب الأهلية. وسبق ذلك تشكيل حكومة الترويكا الائتلافية في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 بعيد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، التي سبقتها توافقات سياسية لتشكيل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، والتي ضمّت لجنة حماية الثورة واللجنة العليا للإصلاح السياسي (عيّنتها الحكومة)، وأشرفت على مسار الانتقال الديمقراطي والإصلاحات السياسية والدستورية في البلاد، منها قانون الانتخابات وتكوين الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وانتهت مهمّتها بانتخاب المجلس التأسيسي.

وبمرور الوقت، تحوّل التوافق السياسي من منطق تسوية وطنية إلى محاصصةٍ حزبية، حيث تعاملت النخب السياسية مع التوافق آلية لتقاسم النفوذ وليس عقداً اجتماعياً جديداً، وبدلاً من أن يكون بوابة للإصلاح، أصبح عبئاً على المسار الديمقراطي، لا سيما بعد أن تجاهل المطالب الاجتماعية والاقتصادية العاجلة، وهمّش المشاركة الشعبية لصالح تفاهمات النخب.

كانت تجربة التوافق في تونس بلا مضمون، ما أفرغ الديمقراطية من محتواها وأهدافها الاقتصادية والاجتماعية، وأدّى إلى تآكل الثقة الشعبية في العملية السياسية، ثم انهيار التوازنات وانسداد الأفق، فشكّلت كل هذه العوامل أرضية خصبة لصعود خطاب “الاستثناء” وظهور نزعة سلطوية جديدة، جعلت الانقلاب على المسار الدستوري في 25 يوليو/ تموز 2021 ممكناً، بل ومقبولاً شعبياً في بدايته، هكذا انتهت الديمقراطية التوافقية من دون أن تنجح في بناء ديمقراطية مؤسّساتية حقيقية، وتحوّلت من أداة انتقالية إلى عائق أمام التغيير العميق.

أثبتت التجربة التونسية أن الديمقراطية التوافقية قد تكون أداة مفيدة في مراحل ما بعد الثورة، لكنها لا تكفي وحدها لبناء نظام ديمقراطي فعّال

لم تكن الديمقراطية التوافقية متطابقة في نتائجها العملية بين عدّة تجارب، بعضها، مثل لبنان والعراق، اعتمدها خياراً لفض نزاعات وعقد تسويات سياسية، فباءت بالفشل، وأدّت إلى شلل مؤسّساتي وإضعاف الدولة، وأخرى مثلت جسر عبور ضمن مرحلة انتقالية مثل ما حدث في جنوب أفريقيا بعد نهاية نظام الأبارتهايد، إذ مثّلت نموذجاً لتوافق مرحلي ناجح، بفضل قيادة تاريخية ومؤسسات قوية، أعقبها انتقال فعلي نحو ديمقراطية تنافسية، وبعضها الآخر جسد ديمقراطية توافقية دائمة نسبيّاً، لكنها تعاني من صعوبات في اتخاذ القرار بسبب التعقيدات اللغوية والمؤسّساتية، على غرار نموذج بلجيكا.

ما توحي به هذه النماذج أن التوافق يجب أن يكون آلية انتقالية مؤطّرة ومحدودة زمنيّاً، ترافقها إصلاحات هيكلية ومأسسة الحكم، وغياب ذلك، كما في تونس، يُحوّل التوافق إلى عقبة أمام ترسيخ الديمقراطية الليبرالية، لكنها تظلّ، في الوقت نفسه، حلاً عملياً في المجتمعات المنقسمة التي لا تحتمل ديمقراطية أغلبية تقليدية، وتساهم في تمثيل عادل للمكونات المجتمعية، وتعزيز الثقة بين الجماعات المختلفة، وتحقيق استقرار نسبي.

أثبتت التجربة التونسية أن الديمقراطية التوافقية قد تكون أداة مفيدة في مراحل ما بعد الثورة، لكنها لا تكفي وحدها لبناء نظام ديمقراطي فعّال، بل إن إطالة أمد التوافق من دون إصلاحات مؤسّساتية واقتصادية عميقة يُفرغ الديمقراطية من محتواها، ويهيّئ الطريق نحو السلطوية.

لا تُبنى الديمقراطية بالنصوص فقط، بل بثقافة مدنية ومواطنة فعلية

كانت الديمقراطية التوافقية في تونس حلاً ظرفيّاً لا نظاماً دائماً، ومردّ فشلها يعود إلى عدم ارتكازها إلى مؤسّسات قوية أو إرادة سياسية للإصلاح الجذري، لكن تونس التي فجّرت شرارة الربيع العربي لا تزال تملك فرصة للعودة إلى مسار ديمقراطي حقيقي، شرط أن يتحمّل الفاعلون السياسيون والمجتمع المدني مسؤولياتهم، وأن تُعاد صياغة العقد الاجتماعي على قاعدة المواطنة والحرية والعدالة.

لا يعني مطلب التخلص من السلطوية وبناء نموذج ديمقراطي ليبرالي في تونس استعادة ما كان قبل 2021، بل يستوجب بناء نظام سياسي على أسس جديدة تضمن الفصل الحقيقي بين السلطات، واحترام الحرّيات الفردية، وتركيز قواعد ومؤسسات دستورية راسخة، وهو ما يتطلب إصلاح النظام الانتخابي لضمان تمثيل أكثر عدالة واستقراراً، وتعزيز استقلال القضاء والإعلام، وتفعيل آليات المساءلة والشفافية. كما أن الديمقراطية لا تُبنى بالنصوص فقط، بل بثقافة مدنية ومواطنة فعلية، وهو ما يستدعي مراجعة عميقة لدور التربية والتعليم والإعلام في تشكيل الوعي العام، ليبقى الأمل في أن تستعيد تونس قدرتها على إعادة البناء من قلب الأزمة، وتحقيق التوازن بين الاستقرار والحرية، وبين الشرعية والنجاعة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى