نحو ثقافة التكامل

محمد خالد الرهاوي

سقط النظام الأسدي بعد عقود من الإجرام والقمع والاستبداد، وبعد أربعة عشر عاما من الثورة المباركة التي لم يترك خلالها سلاحا إلا استعمله ضد شعبه، ولم يتوانَ عن الاستعانة بالروس والإيرانيين والميليشيات الطائفية والذين جلبهم من كل مكان لقمع الشعب واجتثاث ثورته، أجل سقط وترك وراءه دمارا ماديا هائلا على جميع مناحي الحياة ومستوياتها وصعدها، كما ترك أيضا تركة ثقيلة ومعقدة على المستوى الاجتماعي والوطني.

ولعل من أخطر جوانب هذه التركة هو إذكاء الصراعات والانقسامات وتعميقها بين مكونات الشعب السوري المتنوعة، ومن المعلوم للجميع أن هذه الصراعات لم تكن وليدة المصادفة أو العفوية، بل كانت جزءاً أساسياً من سياسة ممنهجة انتهجها النظام بهدف وحيد هو: إضعاف النسيج الاجتماعي السوري وحرمان الشعب من وحدته وتماسكه، وذلك لغاية رئيسة هي ضمان بقاء النظام وسيطرته المطلقة وإدامة حكمه واستمرار توارثه من خلال تطبيق مبدأ “فرق تسد”، فقد سعى جاهداً لدق الأسافين وغرس بذور الفتنة والخوف والريبة بين السوريين وتغذيتها بكل ما يستطيع في وسائل الإعلام والتعليم وإدارات الدولة والفروع الأمنية وغيرها، مستخدماً الاختلافات الطبيعية في الهويات الثقافية والدينية والإثنية أدوات للقمع والتحكم، لا مصادر غنى وتنوع وإن تظاهر بالتغني بالتنوع والتعدد، فأدت هذه السياسات المتعمدة إلى تآكل الثقة وتعميق الجراح بين أبناء الوطن الواحد، وجعلهم أكثر قابلية للاستقطاب والتوجس والريبة والخوف وفقدان الثقة وأبعدَ عن فكرة الشراكة الوطنية الكاملة، ومما لا شك فيه أن مواجهة هذه التركة الثقيلة والعبور نحو مستقبل مختلف يتطلب إدراكاً عميقاً للمخططات التي كانت تُحاك لإضعافنا، وعملاً دؤوباً على إعادة بناء ما هدمه النظام البائد من خلال ترسيخ ثقافة تقوم على التكامل والترابط والاعتراف المتبادل، لا على الإقصاء والإلغاء.

احترام ثقافة الآخر، وفهم الاختلافات الثقافية والدينية والاجتماعية وتقديرها واعتبارها جزءاً أصيلاً من النسيج الوطني.

إنَّ الدعوة إلى ترسيخ ثقافة التكامل والترابط بين مكونات المجتمع السوري وثقافاته المتعددة تعدُّ أمراً جوهرياً وحيوياً لبناء الدولة السورية وصنع مستقبل مستقر ومزدهر لها.

وفي المقابل، فإن تجنب سياسات الإلغاء والإقصاء ليس مجرد خيار، وإنما ضرورة وجودية ووطنية قصوى تفرضها طبيعة المجتمع السوري وتاريخه، وإن النظرة المتعمقة للمجتمع السوري تكشف عن ترابط عضوي وتكامل طبيعي بين جميع أجزائه ومكوناته، ولا يمكن فصل أحد أطرافه أو إلغاؤها من دون إلحاق ضرر جسيم بالمجتمع كله، ومثلهم في ذلك “كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا على سَفِينَةٍ، فأصابَ بَعْضُهُمْ أعْلاها وبَعْضُهُمْ أسْفَلَها، فَكانَ الَّذِينَ في أسْفَلِها إذا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا على مَن فَوْقَهُمْ، فقالوا: لو أنّا خَرَقْنا في نَصِيبِنا خَرْقًا ولَمْ نُؤْذِ مَن فَوْقَنا، فإنْ يَتْرُكُوهُمْ وما أرادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وإنْ أخَذُوا على أيْدِيهِمْ نَجَوْا، ونَجَوْا جَمِيعًا” ويتجلى هذا التكامل في جوانب كثيرة، منها:

  • التكامل بين المدينة والريف والبادية:

فالتفاعل بين هذه المناطق ليس تبادلا بين جغرافيتين أو منطقتين مختلفتين، بل هو دورات حياة متكاملة؛ فالمدينة تحتاج للمنتجات الزراعية والحيوانية والموارد الطبيعية التي يوفرها الريف والبادية، والريف والبادية يحتاجان المنتجات الصناعية والأسواق التجارية والخدمات التي توفرها المدن، والمدن الكبرى مثل دمشق وحلب لم تنشأ وتزدهر إلا بفضل محيطها الريفي والمحافظات الأخرى التي تغذيها وتسوّق منتجاتها؛ فهي بحاجة مزدوجة ومستمرة لجلب المواد الأولية وتصريف البضائع، ولا شك أن محاولة إلغاء أي من هذه المكونات هي محاولة لقطع شرايين الحياة عن البقية، وجدير بكل من الريف والمدينة تجنب ما يوتر العلاقات ويؤدي إلى أحكام متحيزة بناء على الموقع الجغرافي.

  • التكامل بين الفئات الاجتماعية:

ينطبق مبدأ التكامل هذا على جميع مستويات المجتمع، فلا يمكن للغني أن يستغني عن الفقير، ولا للفقير أن يستغني عن الغني؛ فلكل منهما دور يؤديه في منظومة الحياة والاقتصاد والإنتاج. والطبقات العليا تحتاج للعمالة والخدمات التي توفرها الطبقات الدنيا والمتوسطة، والطبقات الدنيا والمتوسطة تحتاج للفرص التي يمكن أن يخلقها الأثرياء ورأس المال، والمجتمع السوري -مثله مثل أي مجتمع بشري- نسيج متكامل من الفئات المختلفة، ومحاولة إلغاء أي منها تعني تمزيق هذا النسيج وإضعاف بنيانه.

  • التكامل بين المكونات الإثنية والدينية والثقافية:

هذا التنوع هو أحد أغنى سمات سوريا وأعرقها؛ فالعربي والكردي والسرياني والأرمني والتركماني والشركسي وغيرهم هم جميعاً أبناء هذه الأرض وشركاء في تاريخها ومستقبلها. وكذلك المسلم والمسيحي والدرزي والعلوي والإسماعيلي ومختلف الفرق والمذاهب الأخرى التي تشكل فسيفساء سوريا الدينية، ومحاولة أي مكون -مهما بلغت قوته أو كثر عدده- لإلغاء أو تهميش مكون آخر- مهما صغر حجمه أو قل عدده- هي عملية عبثية ومدمرة؛ فالهويات لا تُلغى بالقوة أو الإقصاء، بل تترسخ وتتفاعل في بيئة من الاحترام والاعتراف المتبادل.

نشر ثقافة التعايش السلمي، والاعتراف بالتنوع على أنه قيمة إيجابية ومصدر غنى، وليس تهديداً.

لقد أثبتت التجارب القاسية -ولا سيما في السنوات الماضية- فشل السياسات القائمة على الإقصاء والتهميش ومحاولة التغيير الديمغرافي التي سعى إليها النظام البائد، والتي خلفت دماراً هائلاً وخسائر بشرية ومادية فادحة، وتهجيراً لملايين السوريين من مختلف المكونات عامة ومن المكون السني خاصة، لكنها في النهاية لم تستطع إلغاء الهويات أو المكونات الاجتماعية أو الدينية أو الإثنية، وسقطت خطط الإلغاء مع سقوط منطق الاستبداد الذي أنتجها، وإن بقيت آثارها المؤلمة تتطلب معالجة جذرية وشاملة.

إن الواقع اليوم، وبعد كل ما مرت به سوريا، يؤكد حقيقة لا يمكن تجاهلها: كل مكون، وكل فرد، وكل مجموعة، متمسكون بهويتهم وثقافتهم ودينهم وعاداتهم وتقاليدهم، وهذا التمسك ليس بالضرورة مصدر صراع، بل يمكن أن يكون مصدر قوة وتنوع إذا ما أُدير بحكمة واحترام. لذلك، فإن الحل الوحيد والمسار الآمن والمستدام لمستقبل سوريا يكمن في:

  • نشر ثقافة التعايش السلمي، والاعتراف بالتنوع على أنه قيمة إيجابية ومصدر غنى، وليس تهديداً.
  • واحترام ثقافة الآخر، وفهم الاختلافات الثقافية والدينية والاجتماعية وتقديرها واعتبارها جزءاً أصيلاً من النسيج الوطني.
  • وتسييد دولة القانون والمؤسسات من خلال بناء نظام قانوني عادل ومستقل يطبق على الجميع على قدم المساواة، من دون تمييز على أساس الانتماء أو العدد أو القوة، فالقانون هو الضامن الوحيد لحقوق الجميع وحامي التنوع من محاولات الإلغاء أو الهيمنة.

إن مستقبل سوريا لا يمكن أن يبنى إلا على جسور من التكامل والتعاون بين جميع أبنائها، لا على أنقاض الإقصاء والإلغاء التي لن تجلب إلا مزيداً من الدمار والانقسام.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى