رحلة سجين الفصل الثامن: ثائر غير سوري يقاتل على أرض سورية

د- أحمد سامر العش

خرج خلدون من لقائه مع خالد والقاضي حبيب وهو في حالة انعدام وزن، يبدو أن ما يدعى بالمجتمع السوري يعيد اكتشاف نفسه بعد فترة طويلة من انعدام الهوية وجعلها تابعة لأهواء الحاكم، وأهواء الحاكم كانت على ما يبدو تتلخص في الحفاظ على الكرسي بأي ثمن كان حتى لو لم يبقَ في سوريا شعب ليحكمه، وهذا يظهر جلياً في خطابات الأب والابن، فخطابات الأب لم تكن تفهم منها شيئاً؛ وكأنه يريد أن يجعلك تفتش عن الرسالة فلا تجدها، أما خطابات الابن، فكانت لشرح خطابات الأب؛ لذا بدت وكأنها تشرح المشروح وتترك المطلوب لتُضيِّع الحقيقة. ربما أصبح شعبنا بعد فترة البعث يشبه خطابات الأب والابن لا طعم له ولا رائحة ! تذكَّر خلدون حديثاً قبل الثورة دار بينه وبين مغترب ابتعد عن سوريا لمدة ثلاثين عاماً، وعند عودته سأله خلدون: كيف وجد سوريا والسوريين: عندها فاجأه المغترب بقوله: سوريا كما تركتها، لكنها قديمة أكثر، ملوثة أكثر، وكأنها لوحة أُلقيت في عليَّة المنزل لتتعتق، أما البشر، فأحسُّ أن عندهم شيئاً يمكنك أن تسميه عقد نفسية مركبة، يمكن تشبيهها بكبكوبة الخيطان المتشابكة أو كما يقولون في الغرب كرة السباكيتي، فلا تكاد تعرف بدايتها من نهايتها، وتحتاج جهداً غير عادي لتفك تعقيداتها دون جدوى، الناس تكذب وتلف وتدور دون سبب وبدوافع مجهولة حتى لصاحبها، أصبح معظم الناس يلعبُون في حياتهم شخصياتٌ متعددةٌ لا تمت إلى بعضها بعضاً بصلة، فهم في المنزل بشخصية، وفي الشارع بشخصية، وفي العمل بشخصية أخرى، وكلما ازدادت عقدهم، تعددت شخصياتهم حتى لا تكاد تعرف أياً من هذه الشخصيات هي شخصيتهم الحقيقية وأيها شخصيات مزيفة لأغراض ودوافع مجهولة!

شهادة هذا الشاب بقيت كثيراً توخز تفكير خلدون وتهيج هواجسه، وزاد عليها هجرات السوريين من دول الخليج إلى أوروبا والأمريكيتين تحت عنوان لاجئ، حيث سرقوا الفرصة ممن يعانون بحق، للحصول على جوازات سفر وامتيازات لهم ولعائلاتهم التي تنعم بأوضاع طبيعية، فبالنسبة إلى هؤلاء وجدوا في المأساة السورية فرصة لهم، تماماً كما جرت العادة في الدولة الأسدية على رمي فتات الفرص للمجتمع لينسوا السرقة الكبرى لحرياتهم وإنسانيتهم، فخلدون يذكر كيف شارك كبار تجار دمشق النظام في أيام الأب، بينما ركز الابن على تجار حلب بتوجيه من والده، كان قانون الاستثمار /10/ أيام الأب يمثل جزءاً من هذا الفتات، وكذلك الشركات القابضة التي جرت الاقتصاد السوري إلى وضع راية الولاء لإمبراطورية الأسد المقنعة تحت عنوان رامي مخلوف. النظام الذي بدأ كعميل للخارج لا يعرف كيف يدير السرقات الكبرى إلى أن جاء من علَّمه وقاده إلى هذه السرقات، المجتمع جلُّه كان ضحية وجلاداً في الوقت نفسه. ربما وهو بكامل وعيه وأحياناً كثيرة وهو يخدع نفسه ويرضى بالفتات المُلقى له على أرض الوهم.

وسط هذه الحالة من الضبابية تلقَّى خلدون اتصالاً من خالد يودعه، فقد استدعي على عجل لإخماد تمرد الساحل، وأخبره كم كان سعيداً بلقائه، وأنه سيحفظ رقمه للتواصل معه في القريب العاجل، ولكن ما فاجأ خلدون أنه أرسل إليه رسالة على الواتس اب على شكل ملف ضمت وصيته، وطلب منه أن يكون قائماً على الوصية في حالة استشهاده، وأخبره أنه لم يبقَ له أحد في هذه الدنيا؛ فأخوه الوحيد حسن توفي قبل الثورة، ووالده توفي في حصار ببيلا، أما والدته، فخرجت معه إلى الشمال، وماتت كمداً في مدينة الباب؛ بعد أن فقدت موطنها الذي لم تعرف غيره لسبعين عاماً. كما أن زوجته التي كانت حاملاً في الشهر السادس قتلها برميل ساقط من السماء أودى بحياتها وحياة أسرتها بالكامل! صُدم خلدون من حديث خالد، فلم يخبره من قبل بهذه التفاصيل، وكأنه كان يريد دفنها حتى لا تنكأ جراحه من جديد، واضطر لذكرها كونه أحسَّ بشيء ما في داخله، أو ربما شعر بدنو أجله!

وبالفعل بعد يومين أتصل القاضي حبيب بخلدون ليخبره باستشهاد خالد بكمين غادر من فلول النظام الذين أقسموا على الولاء للوحشية والبهيمية التي لم يعرفوا غيرها طوال حياتهم.

أصر خلدون على السفر إلى الساحل لإلقاء أخر نظرة على صديقه قبل أن يُوارى الثرى، وبالفعل كان في انتظاره القاضي حبيب وثلة من أعضاء سريته الذين شاركوا في مراسم الدفن، لم يستطع خلدون أن يكفكف دموعه وهو يتأمل في وجه صديقه المشع بالنور والطمأنينة وقد دفن بثيابه وقرأ وصيته فوق قبره كما أوصاه، ما لفت نظر من حضر الدفن أن من وصية خالد أن يُدفَنَ سلاحه معه، لم يفهم أصدقاؤه مغزى هذا الطلب. أما بقية الوصية، فكانت تتضمن تبرعه بمنزل أسرته الذي نصفه متهدم ولا يملك غيره لدار أيتام حتى يؤويهم وتسمية الدار باسم “عودة” فهو الاسم الذي أراد تسميته لمولوده ذكراً كان أم أنثى، اسم غريب لم يسبق أن سمع به خلدون إلا كاسم عائلة، أما كاسم أشخاص، فلم يسبق له أن سمع ذلك.

بعد انتهاء الدفن، اقترب منه شخص يبدو من ملامحه أنه ليس بسوري، تأكد خلدون من أنه غريب عن هذا البلد من لهجته، سلم على خلدون بحرارة وعرَّف عن نفسه أنه رفيق السلاح لمدة خمس سنوات مع خالد، تأكدت ظنون خالد من كون هذا الشخص غريباً عن هذه الأرض من لهجته فهو يتكلم اللغة العربية الفصحى، ولا يتحدث بالعامية السورية، أراد رفيق السلاح مع خالد أن يعرف سرَّ وصية خالد، ولماذا طلب دفن سلاحه معه؟ أراد أن يفهم إذا كان هناك جواب عند خلدون، كونه هو المُؤَّمن على الوصية؟ عندها أجابه خلدون: أنه مندهش مثله، وأن الوصية لم يفتحها ويقرأها أو يعرف محتواها بحسب طلب صاحبها إلا فوق قبره. وأنه يشاركه جزءاً من الاستغراب والدهشة!

دعا أصدقاءُ خالدٍ خلدوناً إلى الغداء عندما علموا أنه تحرك مباشرة بعد اتصال القاضي حبيب دون تلكأ، وأنه لم يسترح لدقيقة حتى يتسنى له إلقاء نظرة الوداع على صديقه العزيز. بقي هذا الشاب الغريب ملاصقاً لخلدون بشكل مستغرب، وكأنه يريد أن يقول شيئاً ويمنعه شيء ما مجهول.

أخذ الغريبُ الذي يسمى إسلام خلدوناً إلى جانب بعد العشاء، ودون مقدمات بدأ بسرد حكايته دون معرفة الأسباب أو الدوافع، لكنه كرر في البداية السؤال نفسه على خلدون، هل لديك تصور لِما أراد أن يدفن خالد سلاحه معه؟! شعر خلدون بالإهانة نوعاً ما، فقد سبق أن أجابه عن السؤال نفسِه، وإلحاح هذا الغريب عن هذه الأرض، يعتبر بعرف أهلها نقص كياسة! لكنَّ خلدوناً واسع الصدر أدرك أن اختلاف الثقافات قد يكون السبب وراء تصرف الغريب الأرعن.

قرأ إسلام على وجه خلدون الامتعاض، وهو يقول له سبق وأخبرتك أني لا أدري! عندها ابتسم إسلام ابتسامة ناعمة وكأنه يشير بها إلى رغبته بالاعتذار دون أن يساعده لسانه على النطق بها، فعلى ما يبدو أن سنوات جهاده الطويلة أنسته الكياسة والتعامل الرقيق مع البشر.

ومنذ تلك اللحظة فاض هذا الغريب بكل ما اكتنز بصدره لسنوات دون أن يطلب أحد منه ذلك.

سأروي لك قصتي، ولماذا طَلَبُ خالدٍ في وصيته أن يدفن وبندقيته سبب لي كلَّ هذه التشويش وحرك في صدري بركاناً لا يهدأ. تعود أصولي إلى أواسط أسيا في مدينة تقع على بحر قزوين تسمى استرخان، يقطنها العديد من الأعراق التترية المسلمة، تعرض جدي جوهر الذي كان طفلاً في ذاك الوقت أيام الزعيم ستالين لمعسكرات العمل القسري، والمعروفة باسم “جولاج”. كان ذنبه أنه يحفظ القرآن على يد والده رجل الدين المعروف في المنطقة، ولم يشفع له ِصغَرُ سنه في عدم سوقه مع والده ووالدته وأخته الصغرى.

لقد قام الاتحاد السوفيتي منذ تولي ستالين الحكم بيد من حديد بتغيير ملامح الدولة الأمنية، وقام ستالين بتأسيس جهاز أمني داخلي جبار، واعتمد على البوليس السري في مراقبة جميع المجالات المختلفة في الاتحاد السوفيتي، وملاحقة كلِّ من کان ضد سياسة الدولة في الصناعة و داخل طبقة المزارعين، وتم كذلك تصفية المعارضين في القيادات العليا من المدنيين أو العسکريين سواء في الحزب أو الجيش أو الشرطة وکبار السياسيين، وكذلك ملاحقة المثقفين والقوميين بما يسمي بفترة التطهيرات الکبرى التي وصلت إلى ذروتها تحت قيادة ياجوف في عام 1937.

ويعتبر الجولاج Gulag أو تبسيطاً ” معسكرات العمل الإجبارية” في سيبيريا أبرزَ ملامح الدولة السوفيتية في تطبيق العقاب الجماعي على کل من أدانته الدولة؛ وترك لنا جدي “جوهر” الذي بقي لعشرين عاماً هناك شهادة حية في مذكراته لنتوارثها جيلاً بعد جيل. مذكرات جدي كانت بالنسبة إلي استكشاف صادم قوي ومؤثر للضريبة الجسدية والنفسية لنظام الجولاج على الأفراد المحاصرين داخله. انقسمت مذكرات جدي إلى عدة أجزاء، والأجزاء التي تبرز أكثر هي تلك التي توضح المعاناة الهائلة واللاإنسانية والبقاء داخل نظام السجون السوفييتي، فضلاً عن الآثار الأوسع نطاقاً للاستبداد.

يصف جدي في أول مذكراته عملية الاعتقال بتفاصيل مرعبة، من الخوف وعدم اليقين اللذين يحيطان بالشخص عندما يتم احتجازه وصولاً إلى الصدمة النفسية لعدم معرفة التهم الموجهة إليه. يعد الافتقار إلى الحقوق القانونية والاعتقال والإذلال موضوعات تجذبك بشكل لا يوصف لدرجة أن إحساسك بالزمان والمكان ينعدم وتصبح وأنت تقرأها تعيش مع جدي جوهر داخل ذاك الجحيم.

إن الطبيعة التعسفية للاعتقالات، والشعور الساحق بالعجز، والعمليات اللاإنسانية التي يخضع لها السجناء تمثل جوهر سيطرة الدولة الشمولية على الفرد. إنها توضح كيف يمكن للنظام أن يكتسح حتى المواطنين الأبرياء دون سابق إنذار أو تفسير.

جدي يصور لك عبر كلمات تنبع من داخله السحيق تصويراً مروعاً للاستجوابات الوحشية والتعذيب الذي تحمله السجناء لانتزاع الاعترافات عن أشياء وحوادث يجهلونها تماماً. يتم تفصيل أساليب مثل الضرب والحرمان من النوم والإساءة النفسية بطريقة مزعجة للغاية . كلماته-رغم قساوتها- كانت بليغة في وصف المدى الذي قد يذهب إليه النظام المستبد من أجل الحفاظ على السيطرة وإركاع بني البشر.

كانت روايات جدي جوهر عن التعذيب من أكثر القصص إثارةً للصدمة في مذكراته، حيث توضح قسوة النظام السوفييتي التي تفوق الوصف. هذه الأقسام مهمة ليس فقط للرعب الشديد الذي تنقله ولكن أيضاً لكيفية إظهارها للانحلال الأخلاقي لكل من الضحايا والجناة. إن مذكرات جدي جوهر تجعل السجناء بشراً أحياءً أمامك يرزحون تحت عذابات لا توصف على يد شركائهم في الوطن الذين وقفوا كجلادين فقط لبضع كلمات ومعتقدات زائفة زُرِعَت في أدمغتهم، فبينما كان جدي الذي لا يتجاوز عمره العشر سنوات يُرغم على تدنيس مقدسه القرآن حتى يتوقف التعذيب الذي لا يحتمله بشر عن والده، كانت كلمات جدي تُظهر التأثير المفسد للسلطة لأرواح الجلادين الذين وضعهم القدر على الجانب الآخر منك!

يصف جدي المحاكماتِ الهزليةَ والافتقار شبه الكامل للإجراءات القانونية الواجبة لأولئك الذين تم اعتقالهم. في العديد من الحالات، تمت إدانة السجناء دون إبلاغهم بالتهم الموجهة إليهم، وكانت “محاكماتهم” مجرد تمرينات لختم الأحكام التي تم اتخاذها بالفعل. الانهيار الكامل للعدالة في ظل الحكم الشمولي يوضح الاستهزاء بالنظام القانوني، وكيف استخدمت الحكومة ستار الإجراءات القانونية للحفاظ على سيطرتها وقمع المعارضة. ويسلط غياب أيِّ حماية قانونية الضوء على ضعف الأفراد في ظل مثل هكذا نظام.

أما الحياة اليومية في معسكرات العمل، فاحتلت جزءاً واسعاً من مذكراته. يتم تصوير الظروف القاسية – العمل القسري الشاق، والغذاء غير الكافي، وظروف المعيشة السيئة، والإهانة المستمرة – بشكل حيوي نابض وكأنك تعيش في ذاك الزمان والمكان البعيدين. يأتي النضال من أجل البقاء في المقدمة، حيث يكافح السجناء باستمرار الجوع والمرض والتهديد المستمر بالعنف، كلُّ ذلك مغلفٌ  بشتاء سيبيريا القارس الذي أحسَّه جدي كثلاجة لحفظ الذكريات من العفونة أو لتجميد اللقطة حتى لا تضيع في الذاكرة الإنسانية، إنها بحق تُظهر الوحشية الصريحة لنظام الجولاج الذي كان منارة لكل الأنظمة الاستبدادية من بعده. إن تركيز جدي على التجربة الفردية للمعاناة، جنباً إلى جنب مع تآكل الكرامة الإنسانية في المعسكرات، هو تذكير مؤثر بمدى إمكانية كسر الروح البشرية، ولكن أيضاً المرونة التي يمكن أن تُظهرها. لا يُظهر هذا القسم المعاناة الجسدية فحسب، بل أيضاً العذاب النفسي والروحي المرعب الذي تحمله السجناء.

جدي كان يسأل نفسه دائماً في مذكراته عن فلسفة نظام الجولاج نفسه، ليس فقط كمجموعة من المعسكرات، ولكن كأداة للسيطرة الشمولية التي تتخلل كلَّ جانب من جوانب الحياة. يتم استكشاف النطاق الواسع للنظام والطريقة التي يدمر بها الأفراد والأسر. يناقش كيف أن نظام الجولاج لم يكن يتعلق بالعمل فحسب، بل يتعلق بكسر إرادة وهوية أولئك الذين وقعوا في قبضة النظام وترهيب من يقفون متفرجين!

جدي كان في بحث مستمر عن المفتاح لفهم الآثار الأيديولوجية والاجتماعية الأوسع لنظام الجولاج. مذكراته كانت تشدني لفهم كيف استخدم النظام المعسكرات، ليس فقط لمعاقبة الناس، بل ولبث الخوف في نفوسهم والحفاظ على سلطتهم على السكان؛ وهو ما يعكس الرؤية الشمولية للدولة السوفييتية، حيث تم تجريد الناس حتى من أبسط حقوق الإنسان، وأُجبر الناس على العيش تحت المراقبة والقمع المستمرين.

الجولاج يا سيد خلدون يُفسد الضحية والجاني على حد سواء. كان جدي وهو الطفل المراقب الذي كبر ووعى الحياة في الجولاج، يتأمل كيف أن البقاء في المعسكرات يعني غالباً المساومة على أخلاق المرء، وخيانة الآخرين، وفقدان إنسانيتهم. انقلب بعض السجناء، في يأسهم من أجل البقاء، على بعضهم بعضاً، بينما أصبح آخرون أصدافاً مكسورة لذواتهم السابقة.

الجولاج يا صديقي هو المنارة التي تبعها حافظ الأسد وابنه حيث يُظهر التكلفة البشرية للاستبداد – ليس فقط من حيث المعاناة الجسدية، ولكن أيضاً في التدهور الأخلاقي الذي تسبب فيه النظام. لا يركز جدي في مذكراته على القمع الخارجي فحسب؛ بل يتعمق في كيفية تآكل روح كل من المضطهَدين والمضطهِدين بسبب البيئة الوحشية للجولاج. هذا الفساد الداخلي هو ما يجعل الأنظمة الشمولية خبيثة للغاية – فهي تدمر جوهر ما يجعلنا بشراً.

الجولاج أخذ تجمعاتنا البشرية إلى ما هو أبعد من المعسكرات نفسها، وتسلل إلى كل جانب من جوانب الحياة السوفييتية. فيكفي التهديد بالاعتقال ومراقبة المواطنين والخوف والجنون السائد بطريقة تجعل من الواضح أن الجولاج لم يكن مجرد سلسلة من الأماكن المادية، بل كان سمة دائمة للمجتمع السوفييتي، وهي السمة التي أبقت الناس في خوف دائم.

عمل الجولاج كما وصفه جدي في أواخر مذكراته كأداة للسيطرة الاجتماعية. أصبح الخوف من الاعتقال وإرسال المعارضين إلى المعسكرات راسخاً في النفس السوفييتية لدرجة أنه أثر على الحياة اليومية للناس وقدرتهم على الثقة ببعضهم بعضاً. كان ظل الجولاج يلوح في الأفق فوق البلاد بأكملها، مما خلق جواً من الشك والخوف والقمع الذي شعر به حتى أولئك الذين لم تطأ أقدامهم معسكراً قط.

يتأمل جدي في أهمية الشهادة على معاناة ضحايا الجولاج والتأكيد على معرفة الحقيقة؛ ويؤكد على الحاجة إلى أن يرويَ الناجون قصصهم ويحافظوا على ذكرى أولئك الذين فقدوا حياتهم.

لا يشهد جدي جوهر على أهوال الجولاج فحسب، بل يحث أيضاً الأجيال القادمة على تذكر الماضي والتعلم منه. إن أهمية الذاكرة، وخاصة عندما يتعلق الأمر بفظائع الأنظمة الشمولية، هي كانت الرسالة التي أراد جدي جوهر أن ينقلها لنا.

يتصارع جدي طوال مذكراته مع طبيعة الشر، وخاصة في سياق الشمولية. في الأجزاء الأخيرة من مذكراته، يتأمل جدي كيف يمكن للأشخاص في السلطة – سواء في الاتحاد السوفييتي أو في أي مكان آخر – أن يصبحوا متواطئين في القسوة والقمع من خلال اللامبالاة أو الخوف أو التوافق الأيديولوجي، أو كما أسماه أسدُكم المجتمع المتجانس.

هنا يقاطع خلدون سرد إسلام عن مذكرات جده، ويصدمه بالقول: أستميحك عذراً، ما الذي تريد أن توصله إلي، فأنا متعفن من الداخل ومذكرات جدك حية أمامنا بما يشبه هذا إلي تصفه بالجولاج وأكثر، ألم تشاهد المكابس والمقابر الجماعية وأحواض الأسيد، إن حفيد ستالين المجازي جعل ستالين ملاكاً أمام حقده وجنونه! أرجوك! إن دماغي مرهق بما يكفي، فقد أصابني الإعياء وأنا أودع أصدقائي ورفاق دربي الواحد تلو الآخر. ولا أرغب في هضم تجارب التعذيب عبر العالم؛ فهي لا تجد مكاناً في روحي وعقلي المشبع بالظلام والمليء بالضباب الذي يحجب الرؤية عن ألمع العقول!

هنا خجل إسلام من سرده الممل لذكريات جده التي تجاوز عمرها المئة عام وهو منذ أقل من نصف ساعة وارى الثرى جثمان شهيد لا تقل مأساته عن مأساة المحطمين من الجولاج.

آسف أني حدثتك عن ذكرياتي القديمة في لحظات المأساة الحاضرة، لكن لا تعلم أن اكتشافي للمذكرات مخبأة بعيدة عنا “نحن الأحفاد” في مستودع الأشياء القديمة في بيتنا الريفي، شكل صدمة لي وغيَّر كلَّ مسار حياتي، لتراني اليوم أقاتل في بلد غريب وفي سبيل قضية وللدفاع عن أشخاص تفصلني عنهم آلاف الأميال، هل تعلم لماذا؟!!ّ سؤال إسلام أيقظ خلدوناً من وضيعة عدم الاستقبال، ليدق جرساً أكبر من جرس كنيسة نوتردام في رأسه. عندها التفت إلى وجه إسلام واللهفة لمعرفة الجواب تشع من عينيه، سأله خلدون: لماذا؟

في الحقيقة بعد أن صُدمت بتلك المذكرات، توجهت بالسؤال إلى أبي رسلانوف: هل تعلم شيئاً يا أبي عن تلك المذكرات؟ عندها أجابني والدهشة تملأ كلَّ قسمات وجهه والغضب يشع من عينيه: أين وجدت هذا الكتاب ومن سمح لك بالاطلاع عليه؟! اللعنة لماذا لم أحرقه مع باقي أشياء جدك؟! اللعنة على تلك الملابس التي لم تكن تشم من خلالها إلا رائحة المأساة! لا أعرف لماذا جدك احتفظ بها كلَّ هذه المدة؟! أبقاها لسنوات على حالها قذرة تملؤها رائحة العفونة والألم، كنت تستطيع أن تشمها على بعد المئات من الأمتار، لم يفكر يوماً حتى في غسلها، كنت أشاهده في آخر أيامه يشمها ويبكي، وكأنه يعشق تعذيب روحه وجلد ذاته. الحقيقة عندما توفي جدك، أردت حرق كلِّ أشيائه القديمة، وخاصة ما يتعلق بذكرياته في الجولاج الذي عاش أسيره طوال حياته، وأرادنا أن نعيش معه أسرى داخله، شيء ما دفعني للاحتفاظ بذلك الكتاب اللعين، لم أجرؤ يوماً على فتحه وقراءته، كلما كانت يدي تمتد إليه أشعر بخوف شديد، شيء يأكلني من الداخل، ربما كان عليَّ أن أدفنه مع جدك في قبره! اللعنة كيف وصل لك؟! يا لك من فتى أحمق يا أندريه!! هنا سأله خلدون بتعجب ومن أندريه، أجابه إسلام: هذا اسمي الذي أطلقه والدي عليَّ، لقد أراد والدنا أن نعيش متطابقين مع ما حولنا، على عكس جدي جوهر الذي عاش غريباً داخل قوقعة مأساته، أرادنا أن نعيش الحياة، كما هي دينامياتها من حولنا، أن نكون شيوعيين زمن الشيوعية، وأن نكون رأسماليين زمن الانفتاح، بل حتى  نصبح أوليغارشيين زمن الأوليغارشية، هل تعلم أن أخي رخمانوف كان من كبار أغنياء موسكو بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، لقد ثار على فقرنا وظلم النظام لمناطقنا بأن أصبح زعيم ميليشيا كبرى ابتزَّت حاملي الصكوك، وسرقت وباعت أغلب الأصول الضخمة للدولة السوفيتية قبل أن يتم تصفيته من قبل عصابة أخرى منافسة! عندما ذكرت في الوصية أن خالداً طلب أن يُدفَنَ سلاحه معه، تحرك في داخلي كلُّ ما حدثتك به؛ لأن قصة جدي تتجاوز السياق المحدد للاتحاد السوفييتي وتتحدث عن المخاطر العالمية للسلطة غير المقيدة. تأملات جدي جوهر حول طبيعة الشر والطرق التي يمكن بها للناس العاديين أن يصبحوا ممكِنين للقسوة تقف كتحذير خالد ضد الرضا عن الذات واللامبالاة بالظلم. هل ما كان يدور في عقل خالد الذي عرفته ثائراً مثل جدي أن يطوي رسالته مع فنائه لينتقل إلى عقلية أبي؟ الحقيقة لا أفهم، ما رسالته من ذاك الطلب، لقد شوش علي ما رسمته في ذهني عن كل مسارات حياتي وأهدافي التي رسمتها بعناية-كما كنت أظن! لقد اقتنعت مثل جيفارا أن محاربة الظلام وقوى الشر عالمية بامتياز تتجاوز الزمان والمكان وتعبر الحدود الجغرافية، إنها جزء من معركة الحياة بين الخير والشر، بين المظلوم والظالم، بين قابيل وهابيل، بين فرعون وموسى! هل عَلِمَ خالد مثلما أدرك موسى أن علينا انتظار أربعين سنة حتى ينتهي جيل التيه؟ الحقيقة لا أدري! كم من الصعوبة أن ينهار تماسك السرد في ذهنك، تلك المفاهيم التي تراكمها مع مُعاركتِك للحياة، لدرجة أن تجهل أسباب حدوثها وترسبها في طريقة تفكيرك ونظرتك لما يجري من حولك! طلبُ خالد بدفن سلاحه، شكَّلَ ألماً مزمناً في دماغي، وعاصفة أفكار لا تهدأ داخل نفسي التائهة، فجأة امتزج كتاب جدي مع خوف أبي وتقوقعه داخل ما ألَّف وخلف ذلك اختلطت مشاهد دفن جثة أخي رخمانوف وقد شوهتها المافيا الروسية ومزقتها على طريقة القبائل البدائية المتوحشة، لا تدرك يا صديق صديقي، الصراع والألم الذي يعتصرني الآن! ومع آخر كلمة قالها سقطت دمعة صغيرة من عيني إسلام بدت كتناقض صارخ مع قسمات وجهه القاسية وهيئته الصلبة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى