نعم هرمنا.. ربما جميعاً

مصطفى علوش

قال محمد الماغوط مرّة: “عمرها ما كانت مشكلتنا مع الله، مشكلتنا مع الذين يعتبرون أنفسهم بعد الله”، والآن وبعد أن هرب الأسد، أقولها وبعد ما يقارب عشر سنوات من العيش في ألمانيا، هرمتُ، معيداً ذات الكلمة التي قالها يوماً ما ذلك التونسي النبيل وهو يشاهد فرار الرئيس التونسي بن علي في تلك الأيام.

ربما هرمنا جميعاً بانتظار لحظة الحرية، والحرية لا تعريف لها، فكل تعريف يحدّها هو اغتيال لمعناها الكبير، فالحرية تعني فضاء إنسانياً كاملاً للجميع.

فحين أريد تأسيس شارع جديد أو مطار أو مؤسسة أحتاج إلى اختصاصيين، درسوا وتعلموا، لكن تخيلوا معي أن أقول مثلاً  إنني أحتاج إلى “مهندس سنّي، وخبير علوي، وطبيب إسماعيلي أو ممرض مسيحي وطيار مدني كردي”. لاشك وفي زمن الذكاء الاصطناعي بأن من يقرأ الجمل السابقة سيقول: إن هؤلاء يؤسسون لبناء عصفورية، لا دولة.

حتى العصفورية تحتاج إلى اختصاصيين

حتى العصفورية، هي مشفى، لمعالجة المرضى وتحتاج إلى أطباء وممرضين وفنيين من مختلف الاختصاصات، ليشتغل المشفى على أكمل وجه. فتخيل أن تطلب  للعمل في مشفى طبيباً سنّياً و مديراً إدارياً علوياً وآخر مرشدياً!!

نعم هرمنا ونحن ننتظر أن نبدأ جميعاً في بناء الدولة السورية التي نريدها جميعاً، والدولة هي مفهوم قانوني، بنية فوقية، تعبّر عن مصالح جميع أفراد المجتمع، وكما تعرفون جميعاً طوال خمسين عاماً لم يؤسس البعث ومعه الأسدين سوى سلطة فردية وراثية دكتاتورية، كان عمادها الفساد والإفساد الممنهج.

مثل ملايين السوريين أتابع المشهد السوري، أتناول حبوب ارتفاع الضغط، وأتنفس عميقاً قبل قراءة أي خبر جديد يخص الانتهاكات والتجاوزات، وأشاهد فيديوهات تخص رجالاً يريدون نشر الدعوة الإسلامية، أين؟ في الشام!!ومنطقة بلاد الشام تعتبر مهبط الديانات السماوية.

الله خير مطلق للجميع

يا للغرابة! الله خير مطلق، عدالة مطلقة، لا يمكن لمفهوم الله أن يكون غير ذلك، هو رحمة وتسامح ومحبة لجميع البشر. لكن الدولة علوم وضعية، وتشريعات دنيوية ومؤسسات وفرص عمل  وسوق واستثمارات، تحتاج الدولة إلى جهود جميع أبناء المجتمع.

فكيف يمكن أن يتمّ الاستثمار في الإنسان السوري، وهذه اللغة الطائفية تنتشر الآن انتشار النار في الهشيم؟

هرمتُ هنا في ألمانيا ولم يسألني أحد عن طائفتي أو ديني، ومن باب التعارف كنتُ أشرح لأصدقائي الألمان، أين تقع مدينة سلمية التي ولدتُ بها، وأن في هذه المدينة يعيش سوريون ينتمون للطائفة الإسماعيلية، ومن بينهم كان الماغوط وعارف تامر وفايز خضور وسامي الجندي وعبد الكريم الجندي، وفي هذه المدينة صلّى  السوريون الإسماعيليون في جامع السنّة الذي يقع في قلب المدينة عام 2011 وخرجوا معهم في مظاهرات مرددين “الشعب يريد إسقاط النظام، وحرية للأبد غصباً عنك يا أسد”. وفيها عشرات التيارات السياسية التي كانت ومازالت معارضة للأسد ولكل استبداد، وحين ارتكب الأسد مجزرة حماة في الثمانينيات من القرن العشرين، استقبلت هذه المدينة السورية آلاف الهاربين من حماة، وفتحت لهم قلوبها وأبوابها. وفعلت ذلك أيضاً مع كل النازحين السوريين الذين هربوا من الرستن وحمص وغيرها، خلال فترة الثورة السورية الأخيرة.

الهوية الوطنية السورية لا الطائفية

لم أشعر يوماً أنني إسماعيلي سوري، إنما شعرتُ ومازلت أنني سوريٌّ أنتمي لسوريا كلها، مع أنني مثل ملايين من فقرائها لا أملك فيها شيئاً. لكن روحي تملكها كلها.

سوريا اليوم متعبة، مرهقة، بائسة، هرم شبابها وأطفالها، ويحتاجون جميعاً للأمان التام، ولحكومة تمثلهم جميعاً، ولها صلاحيات تامة، يحتاجون إلى جهاز شرطة وسلطة قضائية ومحاكم، كما يحتاجون إلى شارع نظيف وبيئة نظيفة.

الريف السوري وقراه من أفقر أرياف العالم، لكن يمكن أن يصبح من أفضل أرياف العالم إذا توافر له دولة تقدم للجميع يد المساعدة لتبدأ عملية التنمية والاستثمار.

هل نحتاج مرة أخرى لتذكير قادة البلد الجدد، بأن سوريا تحت المجهر الدولي، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية، والعلاقة مع العالم تحتاج إلى سياسيين سوريين يعرفون تماماً ما هو معنى السياسة، وكيف يمكن أن يبدؤوا الخطوة الأولى الصحيحة في بناء جسر الثقة مع هذا الكوكب المتغير.

لا يمكن أن تعيش سوريا بعزلة عن العالم فهي تحتاج للعالم اقتصادياً وتقنياً وثقافياً، ولغة المناكفات والعداء للعالم لن تجلب لسوريا سوى مزيد من الخراب.

خبراء التربية والاقتصاد يعرفون هذه الحقيقة وهي أن  الاستثمار الأول والمهم هو الاستثمار في الإنسان.

فالتعليم وتأهيل الإنسان هو الخطوة الأولى والأساسية للاستثمار في الإنسان السوري.

فكيف يمكن أن يتمّ الاستثمار في الإنسان السوري، وهذه اللغة الطائفية تنتشر الآن انتشار النار في الهشيم؟

كيف يمكن لآلاف السوريين أن يعودوا من أوروبا، للاستثمار في سوريا، وهناك من يمكن أن يسألك في الحواجز السورية عن طائفتك؟

كيف يمكن أن تعود الناس لممارسة أعمالها والخوف يملأ الصدور من تكرار مجازر قادمة؟

تحتاج سوريا اليوم والآن إلى سياسيين يقررون ويفعلون فوراً، إلى شفافية كاملة في التعامل مع مختلف القضايا الإشكالية وخاصة ملف العدالة الانتقالية.

سوريا أمانة بأعناقنا

تحتاج الناس إلى قطع تام مع الفساد والفاسدين، و إلى الحرية والديمقراطية مثل حاجة أهلها للخبز والكهرباء والماء النظيف.

تحتاج البلد إلى شجرة يستظل الناس بظلها، وإلى دولة بأجهزتها يلجأ إليها كل محتاج ومشتكٍ. لا تحتاج سوريا إلى دكتاتور جديد.

يريد أبناؤها جميعاً الحياة والمستقبل، ولا يريدون العودة إلى الماضي، يريدون بناء مدارس عصرية وقطاعاً صحيّاً عصرياً، ويحلمون بوزارة عمل كما في أوروبا، من اختصاصها أن تقدم للعاطل عن العمل راتباً شهرياً ليعيش بكرامة ريثما يجد عملاً له.

هرمتُ وفرحتُ جداً بسقوط الأسد كما الملايين، ولكني لا أريد للخوف أن يعود لقلوب الناس.

سوريا الآن أمانة في أعناقنا جميعاً فلا تضيعوا فرصة النهوض، فرصة الولادة من جديد.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى