عن أحداث الساحل السوري

مروان قبلان

واجهت سورية الأسبوع الماضي أحد أصعب الاختبارات وأكثرها خطورة منذ سقوط نظام الأسد، كادت تفضي إلى حرب طائفية لا تقل سوءاً عن التي شهدها العراق بين عامي 2006 و2008، عندما أشعل تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء موجة انتقامات طائفية بشعة أحرقت العراق. بدأت أحداث الساحل السوري، كما بات معروفاً، بهجمات واسعة منظّمة شنتها مجموعات من فلول النظام السابق، ممن لا يرجون تسوية أوضاعهم، بسبب هول الجرائم التي ارتكبوها في عهد النظام البائد، ما أدّى إلى مقتل عشراتٍ من قوات الأمن العام، وقع جلهم في كمائن غادرة. جاءت ردّة الفعل مرعبة، حيث ارتكبت مجموعات محسوبة على قوات الأمن مجازر طائفيةٍ ذهب ضحيّتها مئاتٌ من المدنيين من أبناء الطائفة العلوية.

ورغم فشلها في السيطرة على مراكز المدن الساحلية (اللاذقية، طرطوس، جبلة، بانياس)، كما كان مخطّطا، إلا أن الفلول نجحت في تحقيق عدة أهداف، منها جرّ فصائل محسوبة على الإدارة الجديدة إلى فخ ارتكاب مجازر طائفية، ألحقت بالغ الضرر بصورتها التي عكفت على نحتها شهوراً، باعتبارها سلطات مسؤولة، حازت إعجابا واحتراما كبيريْن لحظة سقوط النظام لنجاحها في تجنّب الفوضى، ومنع ارتكاب تجاوزات طائفية، على نطاق واسع. نجحت الهجمات في تعميق الانقسامات بين السوريين، وتعزيز شكوكهم ببعض، كما سمحت بعقد مقارناتٍ مع ممارسات النظام البائد، وهو أسوأ ما يمكن أن تقع به ثورة ضد الظلم والقهر والإجرام. خارجيّاً، عزّزت الهجمات مواقف معارضي رفع العقوبات الدولية (الأميركية خصوصاً، المشروطة أصلاً بحماية الأقليات، من بين مسائل أخرى)، كما عزّزت مواقف الساعين إلى تفتيت سورية إلى كانتونات طائفية، وفي مقدّمهم إسرائيل، التي تعزف على وتر الأقليات، وتُخوِّف من توجهات الحكم الجديد في دمشق.

أظهرت التجاوزات الطائفية ضد المدنيين عجز الحكومة عن حماية مواطنيها، وكشفت عن ضعف سيطرتها على مسلكيات الفصائل التي اندمجت أخيراً في المؤسّسة العسكرية، مقارنة بالنواة الصلبة للحكم (هيئة تحرير الشام)، ما يُبرز حجم التحدّيات التي تواجه عملية الدمج. أبانت أحداث الساحل مقدار الاحتقان الطائفي الكامن في المجتمع السوري، والذي كشف عن نفسه في موجة القتل المتبادلة التي طاولت المدنيين من الطرفين. المفارقة، أن الأحداث كشفت عن تقدّم تفكير القيادة السورية الجديدة ونضجها سياسيا (أخذاً في الاعتبار تاريخها وانتماءها الأيديولوجي) مقارنة بنخبٍ فكريةٍ وثقافيةٍ سوريةٍ برّر بعضها الانتهاكات ضد المدنيين، فيما دخل آخرون في حالة إنكار لوقوعها، أما البعض الثالث، وهو الأسوأ، فقد تورط في التحريض الطائفي، وحتى مباركة ما حصل. على النقيض من ذلك، أدركت القيادة السورية الجديدة سريعاً مقدار الضرر الذي ألحقته الانتهاكات الطائفية بها، فسارعت إلى الاعتراف بوقوعها، وتعهدت بمحاسبة المسؤولين عنها، وأنشأت لجنة للتحقيق فيها. من التداعيات السلبية لأحداث الساحل أيضا أنها قد تكون دفعت بالإدارة في دمشق إلى الهروب إلى الأمام، والقبول باتفاق مع قسد، ما كانت لتقبل به في ظروف مغايرة. وقد وجبت الإشارة إلى هذا، لعل من قام بانتهاكات الساحل وحرّض عليها وبرّرها، يدرك مقدار الضرر الذي ألحقته تصرفاته بوحدة البلاد ومستقبلها.

ما يهم الآن، وقد وقع ما وقع من ضرر، هو منع تكرار ما حصل من خلال تأكيد حقّ الدولة الأصيل في التصدّي لأي تمرّد مسلح، يستهدف السلم الأهلي، أو يعمل لانفصال جزء من البلاد، والمسارعة إلى إنهاء فوضى السلاح وحصره بيد الدولة، وحل الفصائل وإذابتها في وزارة الدفاع، والامتناع عن تجريم الطائفة العلوية بصفتها هذه، أو أي طائفةٍ أخرى، والتوقف عن شيطنتها، والعمل على الفصل بينها وبين فلول الطائفة الأسدية، لأن في ذلك مصلحة وطنية. ومن المفيد أيضاً ردّ الاعتبار للوجهاء العلويين الذين همّشهم النظام البائد، لمكانتهم في قومهم، وإشراكهم في إدارة شؤون مجتمعاتهم المحلية، والاعتماد عليهم في التواصل مع بيئاتهم. منع كل أشكال التحريض الطائفي ومعاقبة من يمارسه، إذ لا يمكن ترك مصير البلاد بيد محرّضين جهلة باحثين عن شعبية على وسائل التواصل الاجتماعي. يجب أيضاً إشراك كل مكوّنات الشعب السوري في العملية السياسية، وعدم استبعاد كل من لم تلوّث أيديهم بالدماء، وعدم أخذ بعضٍ بجريرة آخرين. ويجب كذلك الإسراع في إطلاق مسار العدالة الانتقالية حتى يأخذ كل ذي حقٍّ حقه، ووقف التسريح التعسفي فوراً لأن الناس لا تموت بالرصاص فقط، بل تموت جوعاً أيضاً. إذا فعلنا هذا نكون قد قطعنا شوطاً نحو دولة المواطنة، والقانون، وجنّبنا البلاد التقسيم والفوضى.

 

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى