لا شك أنّ القومية واقع تاريخي له وجود حقيقي وفعّال وتعبيرات واضحة، تتجلى في جميع مستويات الحياة الاجتماعية واليومية للشعوب. فمعظم الناس ” يعترفون دون تردّد بانتمائهم إلى قومية ما، ويقصدون من وراء هذا الإعلان أنهم يرون أنّ ثمة قاسماً مشتركاً يجمعهم مع غيرهم من مواطنيهم في وحدة القومية، وذلك على الرغم من التمايزات التي قد تفرّق بينهم وتقسّمهم إلى مجموعات اجتماعية متميّزة، مثل الطبقة أو الديانة “.
ويقوم مفهوم القومية على تناقض جوهري داخلي له، شأنه في ذلك شأن جميع المفاهيم المحددة لمجموعات إنسانية. هذا التناقض يتجلى هنا، من ناحية، بين العمومية الإنسانية، أي الطابع المشترك للبشر بأجمعهم، سواء أكان من حيث المميّزات البيولوجية والنفسية والذهنية، أم من حيث مغزى المشروعات المجتمعية المستقبلية، وبين الذاتية الخصوصية التي تتجلى في واقع تاريخ المجموعات الإنسانية تجلياً واضحاً، من الناحية الثانية.
مما يستوجب تطوير مفهوم القومية، في اتجاه ديمقراطي وإنساني، من أجل إنجاز التوافق المناسب بين العام والخاص . وقد أنشأت فلسفة الأنوار التفكير والعمل في هذا الاتجاه، وعلينا أن نواصل المسيرة لنحقق تقدماً إضافياً يساعدنا على تكييف تساؤلاتنا وإجاباتنا مع مقتضيات العصر (1).
والقومية هي ” مجموعة الضوابط المتمثلة في الحياة العقلية والوجدانية على السواء. وإن كنا نرى الضابط العقلاني يتمثل في الاقتصاد والاجتماع والنزعات والمواقف التاريخية، فإنّ الضابط الوجداني يتمثل في الآداب والفنون على اختلافها، وهذه الضوابط جميعها تستمد كيانها من ضمير الأمة العفوي والأصيل “(2). وهكذا، فـإنّ القومية بالنسبة للأمة هي بمثابة الصورة للمادة.
لقد تميّزت القوميات الأوروبية بتكاملها التاريخي المتدرج، وإن كان التاريخ الظاهر لهذه القوميات لا يرقى إلى أبعد من القرن الثامن عشر، فإنّ تاريخها غير المنظور يتجاوز حدود هذا القرن إلى ما سبقه من عصور. فما نلاحظه من مظاهر تطور هذه القوميات في القرن التاسع عشر هو محصلة تدرج تاريخي طويل، في الصناعة والعلوم والآداب والفنون والفلسفة، في كل متناسق موحَّد.
ومن جهة أخرى، فإنّ القومية هي إرادة العيش معاً، وهي عملية تاريخية تنجزها جماعة بشرية تعيش على رقعة جغرافية معينة، تتكلم لغة واحدة ويربطها تراث ثقافي – حضاري مشترك. فالقومية إذن عملية تاريخية يمكن أن تنشأ وتنمو وتنضج وتزدهر، كما يمكن أن تضعف وتذوي وتتحلل، بل وتندثر تماماً. فالمقوّمات القومية (اللغة، السمات الحضارية – الثقافية، الوحدة الاقتصادية، جهاز الدولة المركزي) ليست إلا متغيّرات تخضع عبر التاريخ لعوامل قوة وضعف لا تتوقف.
في حين أنّ الحركة القومية هي السعي لتحقيق قيام الدولة القومية، المعبرة عن نضج العملية القومية. وبمقدار ما يكون هذا النضج فإنّ العملية التاريخية تبشّر بقوة القومية والأمة – الدولة المعبّرة عنها. ويتم ذلك حين تكون القومية تحقيقاً لذاتية الأمة، أي حين تحقق ذاتية أفرادها الأحرار المسؤولين أمام القانون ” إنها تحقيق لمفهوم سيادة الفرد على مصيره، وسيادة الأمة على مصائرها، وإطار هذه السيادة الديمقراطية “(3).
لقد عرف التاريخ الحديث والمعاصر نوعين من القوميات: القوميات الإمبريالية، كما تطورت في أوروبا خلال القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، وما رافقها من هيمنة استعمارية وتناحر وحروب. وهناك قوميات قيد التبلور، بدأت تحس بذاتها، بحقيقتها، من خلال جدل التناقض مع القوميات الإمبريالية المتمثلة في الدول – الأمم التي كانت مسيطرة والتي لايزال لها نفوذها وتأثيرها. وهي تحتوي جميع القوميات المضطهَدة، القوميات التي لم تتمكن من الوصول إلى الدولة – الأمة. وقد بدأت اعتباراً من القرن التاسع عشر، واتسع دورها وتعاظم في القرن العشرين الذي تميّز بيقظة شعوب المستعمرات وانتفاضاتها التحررية وبلوغها مرحلة الاستقلال السياسي.
إنّ القومية العربية، بمفهومها الذي ساد في التاريخ العربي المعاصر، هي حركة حديثة، نشأت وتطورت تعبيراً عن حالة جديدة ميّزت العالم بأسره -تقريباً – خلال القرنين الماضيين. وهي ” رابطة تاريخية تضمُّ وتجمع وتوحِّد المجموعة السكانية القاطنة في هذه البقعة من العالم، اعتماداً على اللغة والتاريخ والخصائص النفسية والمصالح المشتركة، وهي في مرحلتها الحالية حركة تحرر وطني وتغيير حضاري، تهدف إلى توحيد الشعب والطاقات، وإلى تحرير الأرض والإنسان، وإلى بناء صيغة جديدة لعلاقات داخلية وخارجية تعتمد الحرية والمساواة والعدل، وتساهم في إقامة عالم أفضل “(4).
ومن المحقق أنه لا وجود لعرق عربي صافٍ، فقد تمخضت الفتوحات والغزوات عن امتزاج معقّد للشعوب والثقافات. ووجود اللغة العربية يبقى، منذ العصور القديمة، هو المعيار التاريخي المتميّز والمتواصل للقومية العربية. ومن المؤكد أنّ هناك ثقافة عربية واحدة، تختلف مستوياتها، تغذّي المجتمع الممتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، أيّاً يكن تنوّع السكان وأيّاً تكن خصائصهم. وإذا كانت اللغة الكردية في الشرق الأوسط واللغة البربرية في شمالي أفريقيا، بلهجاتهما المتعددة، ما تزالان تحافظان على بعض حيويتهما، فـ ” إنّ اللغة والثقافة العربيتين تشكلان رابطاً جوهرياً غير قابل للزوال ” (5).
ونخلص إلى التأكيد بأنّ فكرة القومية ” ليست ظاهرة مرحلية وإنما هي ظاهرة باقية، في منظور الإنسان والإنسانية، إلى زمن لا يمكن تقديره. ولكنها، بالمقابل، ليست مفهوماً ميتافيزيقياً أو مثالياً يكون مرة وإلى الأبد، وإنما هي مفهوم متحرك ديناميكي بمثابة ” الأنا ” لجماع البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية والروحية، وللعلاقات الدولية والتعاون بين الأمم من خلال مصالحها المتبادلة، أو التناحر من أجل مصالحها الأنانية ” (6).
وأخيرا، من المؤكد أنّ دور النزعة القومية في أوائل القرن الحادي والعشرين، مقارنة بدورها السابق، سيبدو منحسراً من زاوية حملها للتغيير التاريخي. فالأمة اليوم هي في طور فقدان جزء هام من وظائفها القديمة، أعني تكوين ” اقتصاد قومي ” محدّد إقليمياً يشكل لَبنَة بناء في ” الاقتصاد العالمي ” الأكبر، على الأقل في المناطق المتطورة من الكرة الأرضية. لقد تمَّ إضعاف دور ” الاقتصادات القومية ” منذ الحرب العالمية الثانية وخصوصاً منذ الستينيات، حتى صار موضع تساؤل بفعل التحوّلات الكبرى في التقسيم الدولي للعمل، الذي تشكل المشروعات العابرة للقوميات أو المتعددة القوميات من كل الحجوم وحداته الأساسية، وما يقابلها من تطور للمراكز والشبكات العالمية للتبادلات الاقتصادية التي تقع، لأغراض عملية، خارج سيطرة حكومات الدول (7).
كل هذا، صار ممكناً بفعل الثورات التكنولوجية في النقل والاتصال، وبفعل عهد طويل من الانتقالات الحرة لعوامل الإنتاج فوق مساحة شاسعة من الكرة الأرضية، التي نشأت منذ الحرب العالمية الثانية، وتبلورت – أكثر فأكثر – في تسعينيات القرن العشرين. ومن المؤكد أنّ الأمم والحركات القومية، خاصة المضطهَدة منها، ستكون حاضرة في هذا التاريخ، ولكن بأدوار ثانوية.
1- د. أمين، سمير: في مواجهة أزمة عصرنا، الطبعة الأولى-القاهرة، دار سينا للنشر-1997، ص193-194.
2- د. اليازجي، حليم: (جذور الفكر القومي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر) – عن كتاب: بحوث في الفكر القومي العربي، الطبعة الأولى – بيروت، معهد الإنماء العربي -1983، ص 66.
3- د. عيد، عبد الرزاق: ياسين الحافظ/نقد حداثة التأخر، الطبعة الأولى -حلب – سورية، دار الصداقة -1996، ص 76.
4 – د. منيف، عبد الرحمن: (القومية والهوية والثورة العربية) – عن كتاب: دراسات في الحركة التقدمية العربية، مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت، الطبعة الأولى ص 74.
5- د. قرم، جورج: انفجار المشرق العربي/من تأميم قناة السويس إلى اجتياح لبنان، الطبعة الأولى – بيروت، دار الطليعة – يناير/كانون الثاني 1987، ص 216.
6- سركيس، إحسان: (الدولة – الأمة) – عن مجلة دراسات عربية، العدد (7) – مايو/أيار 1979.
7- هوبسباوم، إريك: الأمم والنزعة القومية، ترجمة: عدنان حسن، الطبعة الأولى – دمشق، دار المدى للثقافة والنشر 1999، ص 184.
المصدر: جسر نت