بعد أشهر من تفشّي جائحة كوفيد-19، كانت الحكومة السورية تلعب لعبة خطيرة. حيث رفضت في البداية الاعتراف بأن هناك أي حالات إصابة بالمرض في سوريا، ممّا خلق بيئة من التضليل الإعلامي والخوف. وفي آذار/مارس، بدأت الحكومة أخيرًا في الاعتراف بوجود عدد قليل من الحالات، ولكن من المرجح أن يتم التقليل من الأرقام بشكل كبير حيث تواصل الحكومة محاولاتها للتعتيم. وعلى الرغم من عدم كفاية البنية التحتية للاختبار والشفافية المشكوك فيها، هناك الآن تقارير عن 720 حالة إصابة بكوفيد-19 في سوريا. وإن البلد الذي دمّرته تسع سنوات من الحرب، وشهد مقتل حوالي 500,000 شخص، يجب أن يستعد الآن للمزيد حيث توجد تساؤلات جدّية حول قدرة سوريا على توفير استجابة فعالة للصحة العامة.
وكان من الممكن تجنّب هذا الوضع. حيث أنه ليس من قبيل الصدفة أن البنية التحتية للرعاية الصحية في سوريا في حالة يُرثى لها. حيث استهدفت الحكومة السورية عن قصد المستشفيات، وهدّدت العاملين في مجال الرعاية الصحية، وحرمت الناس من المساعدات الطبية الإنسانية وحوّلتها عن مسارها، وخاصة من المناطق غير الخاضعة لسيطرة الحكومة كوسيلة لاستهداف الثوار والسكان الخاضعين لسيطرتهم. على سبيل المثال، جمعت التقارير الواردة من صحيفة نيويورك تايمز أدلة من مقاطع فيديو مع اتصالات لاسلكية في قمرة القيادة تظهر أن الأوامر صدرت لقصف مستشفيات في محافظة إدلب. وتظهر أدلة أخرى من تقرير مجلس التحقيق الداخلي (BOI) الذي كلفه الأمين العام للأمم المتحدة بالتحقيق فيما يُسمى “آلية منع الاستهداف” التي تم استخدامها لتبادل المعلومات بين الأطراف المتحاربة. وبينما تم إنشاء هذه الآلية لمنع الهجمات ضد المستشفيات والأعيان الأخرى التي تتمتع بحماية القانون الإنساني الدولي، وجد مجلس التحقيق الداخلي أن الحكومة السورية قلبت هذه الآلية رأساً على عقب واستخدمت المعلومات لأغراض الاستهداف. كما أشار مجلس التحقيق الداخلي إلى وجود أدلة على تورّط روسيا، ولكنه تحفظ بشأن ما إذا كان هناك أدلة كافية للتوصّل إلى نتيجة في هذا الصدد.
وعلى غرار ذلك، تعرّض عمال المستشفيات لهجمات متعمدة من قبل الحكومة السورية. وقد أدّى ذلك إلى فرار ما يُقدّر بنحو 70 بالمائة من العاملين في المجال الطبي من البلد منذ بداية النزاع، تاركين وراءهم فقط الحد الأدنى من الطواقم في المجال الطبي لمعالجة أي حالات طبية حادة أو مزمنة.
ويوجد لدى الحكومة السورية أيضاً سجلّ في استبعاد المواد الطبية من قوافل المساعدات المتوجّهة إلى مناطق المعارضة كجزء من استراتيجية أكبر للسيطرة على تدفّق المساعدات وضمان عدم تلقّي الجرحى أو المرضى من مقاتلي المعارضة والمدنيين في نطاق سيطرة المعارضة للرعاية والعلاج. وفي شباط/فبراير 2018، على سبيل المثال، استبعدت السلطات السورية 3,810 علاجاً طبي من قوافل المساعدات المتوجّهة إلى الغوطة.
وتتجسّد هجمات الحكومة السورية على الرعاية الصحية بشكل أكبر في الاستجابة لتفشّي الأمراض المعدية. على سبيل المثال، كان ظهور شلل الأطفال مرة أخرى في سوريا نتيجة مباشرة للتقاعس المتعمّد من قبل الحكومة السورية لأنها رفضت في البداية الاعتراف بوجود انتقال للعدوى وحجبت اللقاحات الروتينية عن المناطق المحاصرة والمناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة مثل دير الزور، حيث بدأ تفشّي المرض في عام 2013. وهاجمت الحكومة مرافق تخزين اللقاحات مما أدّى إلى تدمير 140,000 جرعة من اللقاح. وأدى ذلك إلى 74 حالة إصابة مؤكدة بحلول عام 2017 لمرض كان على وشك أن يتم استئصاله.
وقد أقرّت الدكتورة آني سبارو وآخرون بالتأثير المشترك لهذه السياسات على أن استخدام الرعاية الصحية بمثابة سلاح، وتحديداً “استراتيجية استغلال حاجة الناس للرعاية الصحية كسلاح ضدهم، من خلال حرمانهم منها على نحو عنيف”. وعلى الرغم من أن هذا المفهوم يصف على نحو ملائم الاستراتيجية التي تتبعها الحكومة السورية، إلا أنها لا تندرج بدقّة ضمن الهيكل الحالي للقانون الإنساني الدولي أو القانون الجنائي الدولي.
ولقد قمنا بفحص المسؤولية الجنائية للحكومة السورية من منظور القانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي الدولي في ورقة بحثية جديدة. حيث نقيّم أفعال الحكومة السورية وحالات تقاعسها فيما يتعلق بهجماتها على الرعاية الصحية، بما في ذلك الحوادث المذكورة أعلاه، لأنها تنطبق على استخدام جائحة كوفيد-19 بمثابة سلاح. وفي حين أن الخسائر والإصابات المباشرة الناتجة عن القصف السوري والروسي للمستشفيات تشكّل بوضوح جرائم حرب، فإننا نستنتج أن الخسائر والإصابات غير المباشرة الناتجة عن عدم إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية قد تؤدي أيضاً إلى المسؤولية الجنائية كنتيجة متوقعة لحملة منسقة. ويوجد لهذا الاستنتاج أثار حقيقية واضحة للغاية على خطورة هذه الجرائم. حيث أسفرت الهجمات المباشرة على المستشفيات عن سقوط مئات القتلى. غير أن قيام الحكومة السورية باستخدام الرعاية الصحية كسلاح قد أحدث مستوى مروّعاً من المعاناة والموت، أدّى إلى عشرات الآلاف من الضحايا على الأقل. وإن السوريين الذين يموتون نتيجة عدم القدرة على الحصول على العلاج أو الحماية من كوفيد-19 قد يؤدّي أيضاً إلى مسؤولية جنائية، في رأينا.
وإن أحد التحديات التي تنشأ هو تحديد الضحايا الذين تُعزى وفاتهم إلى عدم قدرتهم على الحصول على الرعاية الصحية أو العلاج. وفي هذا الصدد، قد يكون هناك إشارة إلى مفهوم الوفيات الإضافية، وهو الفرق بين أعداد الوفيات الملحوظة والأعداد المتوقعة. على سبيل المثال، حدّد خبراء الصحة العامة عدد الوفيات الناجمة عن فيروس إيبولا في غرب أفريقيا والتي نتجت عن عدم إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية. حيث أدّى عدد من الظروف، بما في ذلك الوفيات في صفوف العاملين في مجال الرعاية الصحية، وحالات حظر التجول الإلزامي، وما إلى ذلك، إلى الحيلولة دون تلقّي العديد من الضحايا العلاج وزاد عدد الضحايا الذين تُعزى وفاتهم إلى إيبولا بالآلاف. وعلى غرار ذلك، فقد أدّى تعمّد استخدام الرعاية الصحية كسلاح من قبل الحكومة السورية إلى حرمان آلاف السوريين من العلاج ويجب أن تتحمل هذه الحكومة المسؤولية الجنائية عن ارتكاب هذه الفظائع.
ومع ذلك، لا يزال تفشّي كوفيد-19 في سوريا في مراحله المبكرة نسبياً، ويمكن، بل ينبغي، اتخاذ عدد من التدابير للحدّ من المعاناة البشرية والتعرّض لخطر الوفاة. وينبغي السماح للمساعدات الإنسانية، بما في ذلك المساعدة الطبية، بالتدفق إلى جميع المناطق. ويتعيّن على الولايات المتحدة أن تضمن بأن العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا لا تحول دون وصول المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين. وعلى وجه الخصوص، ينبغي توضيح استثناءات المساعدات الإنسانية الحالية في أنظمة العقوبات، بما في ذلك توفير تراخيص عامة ومحددة لتيسير وصول المساعدات الخاصة بكوفيد-19. وكانت العقبة الأخرى أمام توفير المساعدات هي حق النقض (الفيتو) الذي مارسته روسيا والصين على قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في أوائل تموز/يوليو والذي كان سيسمح بمرور المساعدات عبر الحدود إلى إدلب وحلب، مما أدّى إلى خفض عدد المعابر الحدودية المعتمدة من ستة معابر إلى معبر واحد. ومع ذلك، يجب على الحكومة السورية، من تلقاء نفسها، أن تسمح لقوافل المساعدة بالاستمرار. كما يجب أن تقدّم تأكيدات بأنه بمجرد تطوير لقاح كوفيد-19، فإنها ستسمح لمنظمة الصحة العالمية والمنظمات الإنسانية غير الحكومية بتوزيع اللقاح في جميع أنحاء البلد، دون تمييز ضد أولئك الموجودين في المناطق غير الخاضعة لسيطرة الحكومة. حيث سيُظهر ذلك رغبتها في منع المعاناة الإنسانية غير الضرورية وعكس سياستها المتمثلة في استخدام الصحة العامة كسلاح. غير أنه يتعيّن على الحكومة السورية أن تعلم بأنه إذا لم تفلح في معالجة انتشار كوفيد-19 بشكل مناسب، فقد يتم تحميل كبار أعضاء الحكومة مسؤولية جنائية عن الوفيات الناتجة في المحكمة الجنائية الدولية أو محكمة مختلطة في المستقبل.
ومن شأن بشار الأسد أن يحسن التصرف إذا ما تذكّر قسم أبقراط الذي أقسمه عندما أصبح طبيباً:
“سوف أطبّق، لصالح المرضى، جميع التدابير المطلوبة […] سأعمل على منع المرض والوقاية منه ما استطعت إلى ذلك سبيلا، حيث أن الوقاية خير من العلاج. […] ولأتصرف دوماً كما ينبغي من أجل الحفاظ على أرقى تقاليد رسالتي ولأتذوق لفترة طويلة تجربة فرحة شفاء أولئك الذين ينشدون مساعدتي.”
وبما أن كوفيد-19 يهدد السكان الضعفاء بالفعل، يجب على الحكومة السورية الاعتراف بالمخاطر التي يشكلها المرض ووقف هجماتها على الرعاية الصحية في المناطق غير الخاضعة لسيطرة الحكومة. وأي شيء أقل من ذلك سيرتب مسؤولية جنائية.
*نُشِر في الأصل في “Just Security“
للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على info@syriaaccountability.org. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.
المصدر: المركز السوري للعدالة والمساءلة