تتفق آراء النخب والقوى السياسية والحزبية ، فضلا عن الغالبية الشعبية في تونس حاليا على أن البلاد تواجه حزمة من الأزمات الخطيرة ، كل واحدة منها كافية لتهديد استقرار المجتمع ، ونظام الدولة السياسي في آن واحد ، فكيف وقد تزامنت وانفجرت في وقت واحد ، وباتت تشكل أعراض زلزال عنيف يضرب البلد بقوة ، لم يسبق أن حدث ، ولا حتى عام 2010 عندما ثار الشعب بشكل عفوي على النظام السابق وقد كان قويا ومستقرا . إذ ظهر حينها إجماع وطني على هدف واحد هو التخلص من الديكتاتور الحاكم ، وحزبه ، وأجهزته الأمنية ، ونهجه الاقصائي . ولذلك انتصرت الثورة ، وحصل التغيير بسلاسة ، أثارت اعجاب العالم ، وتحقق انتقال سياسي تاريخي ، بفضل حكمة ووحدة كل التيارات السياسية وإدارة الدولة العميقة ، وعلى رأسها الجيش . وبفضل وعي وحكمة الزعماء الذي جسده (العقد الوطني) الذي توصل له الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي ، رمز الثقافة البورقيبية والدولة التونسية التقليدية ، والشيخ راشد الغنوشي زعيم المعارضة التاريخية ، ورمز الحركة الاسلامية السياسية ، وقدم الطرفان تنازلات جوهرية متبادلة ، لتحقيق الانتقال للديمقراطية والتعايش والاستقرار ، وحماية الوحدة الوطنية من الانزلاقات التي وقعت بها ثورات مصر وسورية واليمن وليبيا . ويشهد الديبلوماسي اللبناني البارز غسان سلامة الذي حضر اللقاء الأول في باريس أن القطبين تحليا بأعلى درجة من الشعور بالمسؤولية والرغبة بايجاد حلول وسط ، ودشنا تفاهما مبدئيا ، يقبل كل منهما بموجبه بالآخر ، ونجحا في ارساء العقد الوطني المنشود ، واجتازت البلاد هزات ومطبات غاية في الخطورة .
إلا أن التطورات الأخيرة بعد سبع سنوات أظهرت أن تفاهم السبسي – الغنوشي قد تقادم ، وفقد مفعوله ، نتيجة أربعة عوامل رئيسية :
أولها – وفاة الضامن القوي له ، وصمام أمان عملية المصالحة بين الدولة والنخب الليبرالية العلمانية ، ومجيء رئيس جديد يخفي رغبة قوية لتغيير النظام القائم ، وايجاد نظام بديل يختلف جذريا .
وثانيها – جولتا الانتخابات العامة والرئاسية اللتان جرتا بصورة مبكرة بعد وفاة السبسي في نصف العام الفائت ، وهما :
1 – انتخابات عامة أسفرت عن مجلس نيابي فسيفسائي لفتات وكتل مبعثرة ، ليس بينها قوة تملك الغالبية الساحقة ، ويعكس نوعا من التمرد الجماهيري على الأحزاب التقليدية ، اليسارية واليمينية ، والاسلامية .
2 – انتخابات رئاسية فاز بها اكاديمي مجهول ، بلا خلفية سياسية على الاطلاق ، ولا يثق بالاحزاب والزعماء السابقين .
وثالثها – أزمة اقتصادية متنامية ، وفشل حكومي في معالجتها ، خلقا تذمرا وغضبا بين الناس ، ترجمتهما انتفاضات جهوية متتالية ، ولا سيما في مدن الجنوب .
ورابعها – الأزمة الليبية التي نشرت القلق على مستوى المنطقة من امكان انعكاسها عليها ، وخصوصا تونس ، ففجرت الصراع مجددا بين النهضة ، والقوى العلمانية والمدنية . وهناك معلومات عن تدخلات خارجية في الساحة التونسية تعكس عدم رضا عن هيمنة الاسلاميين على البرلمان والحكومة بطريقة مواربة وغير معلنة ، وبرزت مؤشرات على مخططات خارجية للتدخل ونسف المعادلة القائمة .
هذه العوامل الأربعة تتحكم حاليا بالساحة التونسية ، بينما لا يتوفر الحد الأدنى من التفاهم على قواعد سلوك يلتزم بها الجميع كما في الاعوام الماضية ، مما أدى لظهور أزمات متعددة :
1 – انقسام حاد بين الكتل البرلمانية والتيارات السياسية ، وفجرت صراعا اديولوجيا بين “أنصار الدولة المدنية ” بالمفهوم الفرانكفوني ، و” أنصارالاتجاه الاسلامي السياسي” .
2 – أزمة فشل حكومي مزمن ، تسبب بتراكم وتعقد المشاكل الاقتصادية والاجتماعية تحول عجزا عن حلها .
3 – أزمة تنازع اختصاصات بين رئيس الجمهورية الحالي ورئيس البرلمان الغنوشي على تمثيل الدولة ، وهو ما لم يكن معروفا في الماضي أبدا .
نحو نظام جديد :
توضح هذه الازمات المتعددة أن تفاهمات الاسلاميين والعلمانيين التي فرضتها ثورة 2010 وصاغها تفاهم السبسي – الغنوشي (لإنقاذ النموذج التونسي) حسب قول الغنوشي سقطت بوفاة السبسي ، وتراجع مكانة حركة النهضة في المجتمع ، واهتراء شعبيتها وشرعيتها ، بسبب أخطائها الكثيرة وخلافاتها الداخلية ، وتنامي قوة خصومها . وظهور قادة جدد من خارج الساحة السياسية التقليدية ، خصوصا قيس سعيد الذي اخترق المشهد ، وأحتل قصر الرئاسة الأولى متفوقا على عشرات السياسيين التقليديين والحزبيين . وهو أكاديمي معارض للأحزاب مثل غالبية المواطنين . وتبين أنه معارض للنظام التونسي ذاته ، ويطمح لتغييره ببطء وهدوء ، وتقوية (مركز الرئاسة) على حساب رئاسة الحكومة وصلاحياتها ، ولذلك لم يلتزم بقاعدة تكليف زعيم أكبر كتلة في البرلمان لتشكيل الحكومة ، واستن قاعدة جديدة ، هي حقه بتكليف شخص مستقل بتشكيل الحكومة . وهو الآن للمرة الثانية خلال ستة شهور يطبقها ، ويكلف مستقلا لتشكيل الحكومة ( الياس الفخفاخ ، ثم هشام المشيشي ) وكأنه يريد تجاوز الاحزاب ، وتكريس القاعدة على حساب الرئاسة الثالثة ، وفتح الباب أمام جيل جديد من السياسيين من خارج الاحزاب .
وعليه فالساحة السياسية اليوم تتفاعل بدون قواعد ولا ضوابط ناظمة ، وتشهد صراعات حادة . حركة النهضة التي ما زالت رغم تراجع مكانتها الشعبية القوة الأولى ، وصاحبة الكتلة الأكبر في البرلمان ، تشهد اهتراء واضحا ، وبداية تحلل باستقالة عبد الفتاح مورو نائب الرئيس ، وعدد آخر من قادتها ، وتواجه ثورة عليها من اليمين الفرانكفوني تقوده عبير موسى زعيمة الحزب الدستوري الحر ، حزب الديكتاتور المخلوع زين العابدين بن علي . وتخوض معركة شيطنة النهضة واقصاء كل الاسلاميين ، لإعادة تونس لثقافة ما قبل ثورة 2010 ، وتدعمها عدة كتل برلمانية قومية ويسارية وليبرالية ، وصلت حد اتهامها النهضة بتشكيل تنظيم سري ضالع في جرائم اغتيال خصومه اليساريين في عامي 2013 و2014 . وكان الثمن تعطل الحياة النيابية ، إذ تحول البرلمان حلبة كسر عظم ، وتصفية حسابات ، بدأت بالاصرار على إسقاط الغنوشي من رئاسة البرلمان . وتتهم مصادر عديدة عبير موسي بتنفيذ مؤامرة أجنبية لاقصاء الاسلاميين عن السلطة ، بقرار من دولة عربية خليجية ، تدعمها عواصم غربية ، كباريس وواشنطن ، لعدم رضاها عن دور الاسلاميين .
هذه المعركة التي تشغل تونس اليوم وتسمم المناخ السياسي وتوتر العلاقات بين الجميع ، وتعقد المشاكل في البلاد ، لم يقف رئيس الجمهورية منها موقفا محايدا أو متفرجا ، بل دخلها من بوابة أخرى ، وكأنه يمارس المزيد من الضغوط على النهضة والغنوشي ، إذ اتهمه بالتعدي على صلاحياته ، والتصرف كما لو أنه هو من يمثل الدولة في علاقاته بتركيا ، وتحديد مواقف تونس من ملفات السياسة الخارجية ، وخاصة الازمة الليبية ، وتبنيه مواقف منحازة لتركيا وحكومة السراج ، رغم أن الموقف الرسمي هو الحياد تجاه الصراع في ليبيا .
ويوحي سلوك الرئيس وكأنه مصمم على تجاوز الاحزاب وتهميشها ، ويدفع باتجاه حل البرلمان ، لإجراء انتخابات جديدة ، كحل وحيد للأزمات الحالية ، ويقول محللون محليون أنه يرغب باجراء الانتخابات القادمة بالقائمة الفردية بدل القائمة الحزبية ، دليلا على خطه المنهجي باستبعاد الأحزاب وتجاوزها واضعافها .
وهو لذات الهدف يستعمل ورقة الحكومات التكنوقراطية من مستقلين ، غير حزبيين ، وبلا تشاور مع رؤساء الكتل الحزبية والبرلمانية ، كوسيلة ضغط على الأحزاب ، إذ يضعها في زاوية ضيقة جدا وخيارين احلاهما مر بالنسبة لها ، فإما أن تمنحها الثقة في البرلمان ، وإما أن يقوم الرئيس باستعمال صلاحياته في حل البرلمان ، ولذلك رضخت الأحزاب لمشيئته حتى الآن!
المصدر: الشراع