من أبرز مشاكل العقل العربى المعاصر تتمثل فى هيمنة الإيديولوجيا ، والتأويلات الدينية التاريخية النقلية الوضعية -أيا كانت- على عمليات التفكير، ورصد وتفكيك، وتحليل الواقع الموضوعى ، ومن ثم الميل إلى المقولات الجاهزة، التى يتم بلورتها فى الغالب بعيداً عن البحث التاريخي وسياقاته ، ومعه الامبيريقي ، ودراسات الحالة، وغيرها من المقاربات المنهجية التى تحاول فهم الواقع الموضوعى فى ذاته -أيا كانت مجالاته ومشاكله وأزماته-، وتحليله واستخلاص نتائجه، ثم صياغة السياسات الكلية، أو الفرعية التى ترمى إلى معالجة اختلالاته في جذورها .
الإيديولوجيا، تبدو مفارقة للواقع الحى فى كل مجتمع، ومن ثم تختزل هذا الواقع المعقد لاسيما فى الدول المتخلفة تاريخيا، فى أنماط من الإجابات الجاهزة، التى تفسر كل شئ، ولا تفسر شيئا، وهو ما يبدو فى تركزها على الفكر الشعاراتى الحامل للنزعة للتعبئة والسيطرة من السلطة على الشعب، والتغطية على الفسادات الهيكلية والوظيفية، والاختلالات فى وظائف السلطات الثلاث ، وأجهزة الدولة ، وغياب الفكر المؤسسى، فى إدارة شئون البلاد. تستتر السلطة الحاكمة في غالب الدول العربية وراء الشعارات الصاخبة التى تخفى العجز، والفشل فى سياساتها والعقل السياسى المستقيل -وفق جورج طرابيش- نظرا لموت السياسة فى العقل ، وفى ممارسة السلطة . هذا العقل الساكن فى اللا سياسة، غلبت علي غالبه التكنقراطية، والبيروقراطية في افضل الأحوال ، من ثم بات عقلا إداريا، غير كفء بالنظر إلى أن مصادره التكوينية جاءت من قلب بعض الانقلابات العسكرية، وأيضا من القبيلة والعشيرة والدين والمذهب، والعرق . من هنا تحولت الإيديولوجيات الكبرى وسردياتها ومقولاتها العامة الشائعة إلى رداءات لإخفاء عدم المعرفة العميقة بها -الماركسية والاشتراكية والليبرالية الغربية والقومية العربية وشعاراتها الشعبوية- من حيث التكوين، وعدم الإلمام بمصادرها وتغيراتها فى مسارات تطورها، سواء فى المتون، أو الهوامش على الهوامش، أو بعض الجروح ، والخرق لبعض من منظوماتها الفلسفية، أو تجاربها فى الواقع فى المجتمعات، والدول التى أخذت بها، علي نحو ماتم في الإمبراطورية الفلسفية والسياسية الماركسية السوفيتية السابقة. كانت إيديولوجيا الشعارات- إذا جاز التعبير وساغ- فى دول وسلطات ما بعد الاستقلال ذات وجهين الوجه الأول : يرمى إلى تحقيق وظيفة التعبئة السياسية، والاجتماعية للمجتمع، وفئاته الاجتماعية المختلفة، وتعظيم دور السلطة الحاكمة، والسلطان السياسى المتغلب والاستبدادية والتسلطي للحاكم الفرد عند قمة بناء القوة في بلاده .
الوجه الثانى: هجاء الأنظمة العربية الأخرى المخالفة لسياسات النظام ، وخاصة الأنظمة المجاورة والمنافسة فى الإقليم، والجوار الجيوسياسى – الدول التقدمية والدول المحافظة والرجعية مابعد الاستقلال – فى ظل منافسات وصراعات بين الدول والأنظمة العربية بعضها بعضا، ومن ثم كان الإعلام التقليدي الموجه والتابع لكل نظام يسعى إلى تجميل وجهه إزاء النظم والسلطات التى يتنافس ويتصارع معها على المكانة والنفوذ فى الإقليم، وتشويهها، والتركيز على الخلل فى سياساتها وارتباطاتها مع المركز الامبريالي الغربي وخاصة في سنوات الحرب الباردة.
فى مواجهة أقنعة إيديولوجيا النظام / السلطة، حاولت بعض المعارضات والمثقفين، والمنظرين الإيديولوجيين، توظيف المقولات الإيديولوجية الماركسية، والليبرالية ، والقومية العربية والإسلام السياسي الوضعي المؤدلج فى نقد النظم الحاكمة، وتعرية أزمات الشرعية السياسية داخلها، وتركيبتها الاستبدادية والتسلطية، وقاعدتها الاجتماعية التقليدية- الدينية والمذهبية والعرقية والقبلية والعشائرية والمناطقية-، وإسناد الفشل لسياساتها.
كان بعض من النقد الاستبداد، والتسلطية، وقمع الحريات العامة والشخصية، ومطاردة العقل الحر، والجماعات السياسية المعارضة، هو مركز السجالات، والتجريح والنقد الإيديولوجى المضاد والاتهام المرسلة بالعمالة للخارج وعدم الوطنية سلاح السلطة في مواجهتهم .
ظلت مسألة نقد السلطة الاستبدادية، والتسلطية، وسياساتها العميقة الشاغل الرئيس للخطاب النقدى المؤدلج المضاد للخطاب السلطوى المحمول على الشعاراتية. خطاب السلطة الاقتصادى كان تعبيرا عن تزييف واقع الحياة الاقتصادية من حيث الإحصائيات المصطنعة، وغير الدقيقة فى الأرقام، لإثبات أن ثمة نمو اقتصادى وتنمية سواء فى مرحلة ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربى، أو فى مراحل رأسمالية الدولة الوطنية ثم التحول الاقتصادى إلى نظام الانفتاح الاقتصادى، وسياسات الباب المفتوح، والإصلاح الاقتصادى، وإعادة الهيكلة، ثم الرأسمالية النيوليبرالية، من الباب المفتوح، الي النيوليبرالة مع
استمرارية الأبواب المغلقة سياسيا، وثقافيا!
بعض العقل السلطوى ما بعد الكولونيالية يحملُ فى تكوين وأعطافه طابعه -القبلى والعشائرى والدينى والمذهبى والعرقى والمناطقى-، ومن ثم هو عقل “محلى”، ويميلُ إلى تجنيد، وجذب الإتباع والزبائن، ممن هم أدني منه ذكاءاً، ومعرفة، وخبرة من أبناء جماعته التكوينية، أو الموالين من خارجها، لضمان الولاء الكامل للحاكم الفرد، ومراكز القوى حوله.
يعتمد بعض العقل السلطوى على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التى تم هندستها تجنيد بعض قياداتها من بعض المحاسيب، والأقارب، ومن أبناء جماعته التكوينية التى ينتمى إليها، وجاء من أعطافها!
بعض العقل السلطوى العربى ذو الأصول العسكرتيارية -العراق، وسوريا، وليبيا والسودان واليمن-، يميل إلى محالفيه من كبار الضباط والقادة ممن يثق بهم، أو أصدقاء سابقين له، ويمثلون دائرة استشاراته وادارته فى كافة الشئون العسكرية، والمدنية.
بعض هؤلاء كان يميل إلى نظام الدفعة -سنة الانخراط فى الكليات العسكرية، والتخرج منها- على نحو ما كان يتم فى نظام يوليو 1952 فى مصر، وخاصة عهد الرئيس عبدالناصر.
هذا النمط من النظام والثقافة العسكريتارية وثقافتها يقوم على الطاعة والانصياع للأوامر، وهو أمر يختلف عن الحياة المدنية والسياسية، التى تتأسس على الدساتير والحريات العامة والشخصية ، والتوازن النسبي في بعض الصراعات علي المصالح الاجتماعية ، ومن ثم هيمنة السيطرة على الجدل والسجال والحوار بين الأفراد بعضهم بعضا، وعلى الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والمهنية ، ومنظمات العمل الطوعى، والمبادرات الفردية والجماعية، وأيضا على الصراعات الاجتماعية، بين الطبقات المختلفة، والتنافس السياسى، وكلها علي مفهوم الحرية وتجلياته المختلفة. من هنا تجلى التناقض الجذري والحاد بين ثقافة وتقاليد الأمر، والنهى والطاعة والخضوع والأمتثال
، وبين ثقافة الحرية، والتنوع والتعدد، والخلاف، والصراع والتنافس السلمى، وخاصة في المجتمعات الانقسامية، وتعددياتها الدينية والمذهبية والعرقية والطائفيّة والقبائلية ، على نحو ما حدث فى العراق، وسوريا، والسودان وليبيا فى مراحل ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربى، على نحو فاقم من أزمات التكامل الداخلى بين هذه المكونات الأساسية المتعددة، وهوياتها المختلفة، لأن عقل بعض السلطة العربية الحاكمة –ذات الأصول العسكرية- تعاملت مع هذه المكونات من خلال سياسة بوتقة الصهر بالحديد والنار والدماء، والمعتقلات، والاغتيالات والتعذيب، والضرب ، والجرح ، والأهانات الماسة بالكرامة الشخصية .
بعض العقل السلطوى العربى، كان يركز على مفاهيم التنمية، والتعبئة السياسية والاجتماعية على المثال الناصرى، ومصادرة المبادرات الشخصية، والجماعية، وتقييدها بالنصوص القانونية، وسياسات الأمن، من خلال السياسات الجنائية، والعقابية التى تمددت إلى مساحات واسعة من تفاصيل الحياة اليومية، في مجال جرائم امن الدولة من الداخل والخارج، وأيضا فرض النزعة التجريمية على عديد من السلوكيات الاجتماعية، وتغليظ العقاب عليها. الأخطر تم بناء شبكات واسعة من الجرائم، والعقوبات، بحيث يسهل على أجهزة إنفاذ القانون أن تسيطر على الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وذلك تحت ذهنية أمنية ترمى للدفاع عن امن المجتمع في خطابها العام، بينما الهدف الرئيس الدفاع عن الدولة المختزلة في النظام والسلطة الحاكمة ، وداخل مفهوم الدولة والنظام والسلطة معهم خلفياتهم الطائفية، أو الدينية أو المذهبية –سوريا والعراق ولبنان-، والعرقية واللغوية- السودان وقبائل الوسط النيلي العربية إزاء المكونات القبلية الأفريقية، وتمييز بعض هذه الجماعات إزاء المكونات الأخرى –العرب إزاء الامازيغ على سبيل المثال- من ثم باتت مفاهيم الدولة، والنظام والسلطة فى بعض بلدان العالم العربي مابعد الاستقلال لا تعدو سوى مصطلحات مستعارة من المتن المرجعي والتاريخي الفلسفي والسياسى والدستورى، والقانونى الأووربى، دون مضامينها ومعانيها ودلالتها كما تجسدت في تاريخ هذه الدول وصراعاتها الاجتماعية والاقتصادية، والسياسية.
في الدول والنظم والمجتمعات العربية التى سيطرت عليها العائلات الحاكمة، ساد العقل العائلى الحاكم، على القبائل والعشائر، من خلال قوة الريع النفطى المالية، من خلال سياسة “الشيكات” –الصكوك- وبعض روابط المصاهرة مع بعض افخاز هذه العائلات، وخاصة شيوخ القبائل والعائلات الكبرى ، من ثم أرتكزت السلطة على الولاءات القبلية والعشائرية والعائلات الكبرى. مع ثورة عوائد النفط، والقوة المالية الريعية ، صاحبت معها مفهوم الطاعة والولاء التقليدي داخل هذه المكونات التقليدية، والحكم العائلى الملكى والمشيخى ومعه التنامى المفرط للاستهلاك الذى ساهم في تخفيف معدلات التوتر والغضب الاجتماعي، فى دول ونظم عائلية احتكرت السياسة داخل بناء القوة العائلى، وصادرتها، ومعها أية إمكانية لحياة سياسية، لأن موت السياسة، باتت نتاجا للسلطة في هذه الدول التقليدية. ظل العقل العائلى الحاكم يسيطر داخليا بأدوات القمع داخليا. وأيضا من خلال السياسات الاجتماعية -التعليم والصحة- وتوسع قاعدة الفئات الوسطى فى المجتمع، والمنح الدراسية فى أوروبا، وأمريكا الشمالية. وانفتاح الحيل الجديد من الحكام على الطبقات الوسطى، وبعض الجيل الشاب داخل العائلات الحاكمة، وأيضا من داخل مكونات المجتمع.
ان دراسات العقل والسلطة والحكم فى المجتمعات العربية الريعية تبدو محدودة ، ولا تزال تشوبها بعض من الغموض. من الملاحظ ان العقل السلطوى العائلى التقليدى، يستعين ببعض من أهل الخبرة الأمريكية والأوروبية فى إطار علاقاته الوثيقة بالمركز النيوليبرالى الكونى.
من هنا تبدو مفاهيم الدولة والنظام السياسى، والسلطة، وأجهزة الدولة، مختلفة فى الإدراك والوعى الاجتماعى والسياسى، للحكام بل وبين غالبية الشعوب عن مصادرهم المرجعية فى التقاليد الغربية، ومن ثم يتطلب ذلك مقاربات مختلفة عن تلك التى سادت فى الفكر السياسى العربى، والدراسات الأكاديمية فى هذا المجال، لتحقيق فهم أكثر عمقا، يعتمد على الواقع التاريخى، والموضوعى، وهو ما يتطلب إجراء دراسات ميدانية، والتنظير المباشر للواقع المتغير فى هذه المنطقة الجيوسياسية العربية، وما حولها!
المصدر: الأهرام