العقل العربي والإبادة والنموذج الغربي

نبيل عبد الفتاح

الجحيم فى قطاع غزة، شكل الحد الفاصل نسبيا بين الوحشية الإسرائيلية، وبين الوجه الأخلاقى والثقافى لليبرالية الغربية، وانفجار التناقضات بين الجاذبية التاريخية والألق لقيم الحرية والعدالة والمساواة، والإخاء الانسانى، وبين المواقف السياسية الرسمية للإدارات السياسية الغربية فى أمريكا، وأوروبا!

هذا التناقض، ونتائج الحرب الكارثية، من القتلى، والجرحى،-٣١٨١٩ قتيل ،و ٧٣٩٣٤ مصاب وقت كتابة المقال -، والتدمير واسع النطاق لمبانى القطاع الخاصة، والعامة، يفتح الباب أمام أسئلة بعضها موروث، وأخرى مستجدة، ومنها متغيرات جديدة، على رأسها  انهيار لمفاهيم السلام والتطبيع، ومحاولات دمج الدولة الإسرائيلية فى الإقليم العربى، بعد اتفاقات أبراهام. الأخطر احتمالات عودة الموجات الإسلامية السياسية الراديكالية مجددًا، وعملياتها فى العالم، وأوروبا، والمنطقة. من ناحية أخرى انعكاسات ذلك على النظرات التاريخية المستمرة منذ نهاية القرن التاسع عسر حول مركزية المثال لأوروبى ثم الامريكى كطريق للتقدم، وتجاوز وضعية التخلف التاريخى!

ثمة احتمالات جديدة لتأثير الموجات الإسلاموية السياسية على اتجاهات بعض الرأى العام العربى، من القيم الديمقراطية السياسية الليبرالية، وتزايد الفجوات مع الثقافات الغربية، واستمرارية النظرة إلى “الغرب الواحد”، فى الوعى الاجتماعي شبه الجمعى السائد عربيا!

هل تؤدى المذابح الإسرائيلية، والدعم الأمريكى الأوروبى لجيش العدوان إلى تراجع بعض العقل العربى عن تمركزه التاريخى الأثير حول المسار الأوروبى/ الأمريكى “للتقدم”؟ هل لا تزال التجارب الأورو-أمريكى تمثل الطريق الأمثل للخروج من دوائر التخلف التاريخى المركب؟

لماذا تطرح هذه الأسئلة مجددًا فى أعقاب حرب الإبادة على الشعب الفلسطينى المحتل فى قطاع غزة؟

المسار الأوروبي   للتقدم ظلت مهيمنة على العقل العربى منذ نهاية القرن التاسع عشر، وفى المرحلة الكولونيالية الغاشمة، حتى الأمريكي في اعقاب مابعد مرحلة الاستقلال الوطنى، وبناء الدولة الوطنية، والاستثناءات محدودة عربيا.

استمرارية هذه المسارات الغربية للتقدم فى العقل العربى، مرجعها عديد الأسباب، يمكن رصد بعضها على النحو التالى:

1- الدرس التاريخى المسيطر عربيا حول الثورات التكنولوجية منذ الثورة الصناعية الأولى، إلى الرابعة، تمحور حول الغرب بامتياز.

2- التطور فى مجالات العلوم الطبيعية، والإنسانية تم انجازه فى الجامعات، ومراكز البحث العلمى الغربية، التى تعلم فى إطارها بعض الباحثين والعلماء والأكاديميين العرب، مع بعض الاستثناءات التى تمت فى التجارب اليابانية، والصينية، والسانغفورية، والكورية الجنوبية، والماليزية والهندية فى آسيا الناهضة.

3- أسئلة التقدم، ومفاتيحه، وأسباب التخلف العربى، لا تزال المطروحة نسبيا، فى صياغات مختلفة منذ المرحلة الاستعمارية، وما بعدها، وحتى الألفية الجديدة!

4- فشل نموذج رأسمالية الدولة الوطنية فى مرحلة التحرر الوطنى –لأسباب دولية ووطنية-، ومعها مجازاتها ومسمياتها كالاشتراكية العربية على المثال الناصرى والبعثى.

5- فشل غالب تجارب العودة إلى الطريق الرأسمالى للتنمية الاقتصادية وتزايد مديونيات دول العسر الاقتصادي العربية، والانفصال بين الرأسمالية النيوليبرالية، والتحول الديمقراطى الشامل، وسيطرت رأسمالية المحاسيبه والزبائن، وارتباطاتهم الغربية.

6- موت السياسة، كنتاج للسياجات القمعية على معتقلات العقل والضمير العربى، وفشل الطبقات البيرو-تكنقراطية فى إدارة دولة ما بعد الاستقلال.

7- تدهور سياسات التعليم، والبحث العلمى، ومستوياتهم والانفصال بينهم، وبين أسواق العمل، والسياسات التنموية!

8- تراجع حركات التصنيع، وتخلفها عن الثورة الصناعية الثالثة، والرابعة، والاعتماد على اقتصاديات الريع، والخدمات، لا الإنتاج.

لا شك أن هذه الأسباب، وغيرها، أدت إلى حصار غالبُ العقل العربى، وراء المسارات الغربية للتطور العلمى والأدبى والفلسفى والاجتماعى، إلا أن حركات المد السياسى الإسلامى ذات العقل النقلى، والراديكالى، وغيرها من السلفيات وخاصة الجهادية، ترفض هذا المسار دونما رؤى نقدية، أو تقديم مسارات اخرى بديلة!

لأنها تركز على الجوانب الدينية، والقيمية، والأخلاقية دونما نظر للجوانب العلمية، والتكنولوجية، والمعرفية. لا شك أن بعض نتائج الحرب الإبادية على قطاع غزة ستؤدى إلى المزيد من التشكيك فى المثال الأخلاقى، والقيمى الغربى سواء من المثقفين شبه العلمانيين، أو من منظرى ودعاة الإسلام السياسى، والسلفى، والمرجح في تعميمات مرسلة جديدة، ستجد لديها بعض من الرواج داخل قطاعات جماهيرية عربية ساخطة، ومتأثرة بالمذابح الإسرائيلية، والمواقف الغربية الداعمة لهاّ فى ظل استمرارية مفهوم الغرب الإحادى المسيطر على غالبُ الوعى العربى شبه الجمعى، دونما نظرة إلي التعدديات داخل المجتمعات الغربية، وتزايد بعض الجماعات الحقوقية، والإنسانوية الرافضة للمذابح الإسرائيلية، وانتقادات بعض السياسيين الأمريكيين والأوروبيين للمذابح، والتجويع ونقص الطعام، والدواء، وأعداد القتلى المرتفعة من الأطفال، والنساء، ولسياسة الإبادة الجماعية الإسرائيلية فى قطاع غزة.

لا شك أن موجه “كراهية”!، ورفض للنماذج الغربية سياسيا، وأخلاقيا، ستكون لديها، انعكاسات داخلية فى المجتمعات العربية، إلا أن مسارات التقدم على النمط الغربى، ستستمر،  وخاصة أن القيم الديمقراطية الغربية لا تزال لها الهيمنة على غالبُ الفكر شبه العلمانى العربي المعاصر، وتوظيفه فى نقد أنظمة الحكم التسلطية، والشمولية، مع استمرارية التصور السائد نسبيا، وأن ذلك يمثل احد اشكال الدعم من الإدارات السياسية الأمريكية، والأوروبية، والمنظمات الحقوقية فى هذه الدول للجماعات التى تنادى بالديمقراطية، والإصلاح السياسى فى المجتمعات العربية.

يتناسى هذا التيار “الديمقراطى “العربى، أن امريكا والدول الأوربية تدعم أنظمة الحكم القائمة، لتحقيق مصالحها القومية فى المنطقة، وفى الصراع الدولى مع الصين وروسيا.

لم يستطع غالبُ دعاة الديمقراطية الغربية والنيوليبرالية أنتاج خطابات نقدية، لمسارات التغير فى نماذج الديمقراطيات التمثيلية، ولا للنيوليبرالية الغربية. فى ذات الوقت لم يستطع التيار الليبرالى العربى –ذو القواعد الاجتماعية المحدودة شعبيا- أن يقدم تصورات حول تجديد الفكر الدينى الماضوى السائد اجتماعيا، وفى السياسات الدينية السلطوية، ووسط غالبُ جماعات رجال الدين على اختلاف توجهاتهم الرسمية، والمعارضة. ومن ثم لم يدرسوا الإعاقات البنائية للموروث الثقافى والتدينى الشعبى السائد، إزاء تأسيس قيم الديمقراطية، والحريات العامة والشخصية في مجتمعاتهم.

من هنا المرجح أن التيار الليبرالى العربى، سيظل حاملا إعاقاته الفكرية،وهشاشته، ومحدودية قواعده الاجتماعية، وانحيازه للنيوليبرالية الرأسمالية، دونما نظر نقدى لتحولات التجارب الآسيوية الناهضة. لا شك أن غالبُ العقل العربى بات أحاديا وسلفيا فى نظراته إلى المسارات الغربية للتقدم، ويعيد إنتاجها فى صياغات ثنائية ضدية، دونما متابعة لأثر الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعى على النماذج الغربية الاقتصادية والسياسية والعلمية والمعرفية. خاصة أن انعكاسات الذكاء الإصطناعى على الحياة الاجتماعية، والشرط الانسانى ستكون ذات طابع راديكالى من حيث علاقة الإنسان، ومفاهيم العمل، وأوقات الفراغ، والعلاقة مع عالم الروبوتات ، وهو جُد أمربالغ التغير، وسيشكل منعطفا تاريخيا، وقطيعة مع مألوف التطور الإنسانى كله!

مثل هذه التحولات لا تزال بعيدة عن العقل ذى البُعد الإحادى المسيطر، بمحمولاته اللا تاريخية التى لا تزال مهيمنة ، والبعيدة عن الحياة المتغيرة كونيًا.

المصدر: الأهرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى