الدولة والسلطة والقانون ما بعد الاستقلال لغة الفراغ السياسي

نبيل عبد الفتاح

الأسئلة التى طرحت على العقل المصرى مع صدمة الحداثة  والحملة الفرنسية، ومشروع بناء الدولة الحديثة مع محمد على، وإسماعيل باشا، اتسمت بالعمومية المفرطة، والنزعة التبسيطية حول مفهومى التقدم، والتخلف، والدولة وسلطة الحاكم الطغياني  الفرد بقطع النظر عن ذكاءه  ، وذلك فى ثنائيات متضادة . كانت الإجابات المطروحة عامة من العقل النقلى الدينى الاتباعي ، ودفاعية وهوياتية وماضوية .  كان العقل الآخر السلطوي حول محمد علي وإسماعيل يتطلع  إلى بعض من السعي إلي الخروج من التخلف إلي التحديث السلطوي ، وهو منحي غلب عليه  الطابع البراجماتى / العملي، لدي الحاكم  محمد علي، وإسماعيل ، حيث ركزا على التعليم المدنى، وسياسة البعثات إلي أوروبا – فرنسا –  وتشكيل كوادر ذات تعليم أوروبي حديث، وتقنى من أجل استكمال عمليات التحديث السلطوي  المادى، وبناء  الجيش ، ومعه أجهزة الدولة ، وتشكيل  “جماعة الموظفين ” كبدايات لتكوين جهاز الدولة البيروقراطى . النزعة البراجماتية/ العملية، هى التى سيطرة على عقلية الحاكم الطاغية  الفرد ، وامتدت انعكاساتها إلي ذهنيات الموظفين .

كان التحديث السلطوي ، وبناء جيش إبراهيم باشا، والحروب التى خاضها فى المنطقة، أو بعض دول أفريقيا جنوب الصحراء في منطقة حوض النيل ، تمثلُ انعكاساً للعقل العملى السلطوى والبيروقراطي لجهاز الدولة. ومن ثم لم تكن الدولة المصرية الحديثة  تنتمي كلياً إلي  المرجعيات الفلسفية، والتاريخية ، والاقتصادية ، والاجتماعية لنشأة وتكوين الدولة/ الأمة في ظل تطور الرأسماليات الأوروبية ، وحركة القوميات  ، والسياسات الإستعمارية الفرنسية والبريطانية والإيطالية  . كان التحديث السلطوي ، وبناء الدولة بها بعض من التشابه الجزئي والنسبي ، لكن لم تمر بمراحل تشكل الأمة ، والقومية ، والرأسمالية ، والأهم أبعادها الفلسفية .

بعض الأختلافات بين نشأة الدولة المصرية الحديثة ، وبين الدولة القومية الأوروبية وأصولها الفلسفية والسياسية شكل بعض من علامات السمات الرئيسة لها ، وكانت أقرب إلي بعض من شبه المحاكاة لها ، ومن ثم  حدث بعض من التخليط النسبي بين مفهوم الدولة بالسلطة المتغلبة والحكم الطغياني الشرقي ، من ثم  ساد بعض من  التشوش بين الحين والأخر  بين مفهومي الدولة والسلطة المتغلبة  ،  وبدأ بعض من التمايز بين المفهومين لدي بعض النخبة السياسية مع عملية استعارة الأنساق القانونية الأوروبية – الإيطالي، والبلجيكي والفرنسي التي قام بها المحامي الإيطالي السكندري مانوري – في سياقات دمج تجارة  وتصدير القطن المصري  في النظام الرأسمالي الدولي ، ومن ثم بدت ضرورة استحداث نظام قانوني علي النسق الأوروبي ، ومن ثم دمج النظام القانوني والقضائي المصري المتعدد – المختلط والوطني مع إسماعيل باشا – مع القوانين الأوروبية . شكلت استعارة ، وإستمداد القانون الأوروبي أحد مداخل التحديث السلطوي للقيم والمؤسسات  ، وبعض من الحداثة القانونية  حول علاقة الدولة ، والسلطة والقانون ، والتمايز بين هذه المفاهيم في الوعي السياسي النخبوي حول الحاكم الفرد . كانت النزعة الوضعية القانونية الشكلية تعتمد علي إنتاج وتأويل بنيات نصوصية ذات طابع عام ومجرد . هذه النزعة  الوضعية الشكلية في صناعة  النصوص القانونية المستعارة من المرجع الأوروبي اللاتيني  – أيا كان مجالها – وعمليات تفسيرها وتأويلها التي ارتكزت علي التقاليد التفسيرية والتأويلية واللغوية والمفاهيمية والإصطلاحية التي سادت في الفقه والمبادئ القضائية اللاتينية الفرنسية . مع بعض اجتهادات القضاء المصري – المختلط والوطني – في تطبيع النصوص القانونية الأوروبية علي الواقع المصري الاجتماعي والديني والثقافي  السائد .

 تشكل مفهوم القومية المصرية بعد ذلك من خلال الكفاح الوطني من اجل  الإستقلال والدستور ، والبرلمان قبل ، وبعد الهبة الشعبية الوطنية واسعة النطاق عام ١٩١٩ .

من عهدي محمد على، وإسماعيل باشا، حتى اتفاقية مونتريه – ١٩٣٧ وإلغاء الامتيازات الأجنبية –  كان مفهوم الدولة، والقانون، والحريات العامة والشخصية، معبرا عن النزعة العملية الوضعية المسيطرة على إنتاج التشريعات، والتطبيقات القضائية، واعتمادها علي غلبة مصالحها السلطوية ، ومصالح كبار ملاك الأراضي بعد تصفية الدائرة السنية  ، وغاب عنها  نسبيا الأبعاد الفلسفية ، والسوسيولوجية ، والاقتصادية، لمفهوم الدولة/ الأمة / الدولة القومية .

كرس هذا التوجه فى النظرات الدستورية والقانونية، التكوين التعليمي والرأسمال الخبراتي  الذي شكل ثقافة  “الطبقة السياسية” فى المرحلة شبه الليبرالية، وخاصة جماعة المحامين بعد الحركة الوطنية والجماهيرية الكبرى عام 1919، وتشكل الطبقة الوسطى ، وثقافة المدينة الكوزموبوليتانية في القاهرة والإسكندرية علي وجه الخصوص  .

الثقافة والمعرفة القانونية الشكلية والعملية التى هيمنت على العقل القانونى والسياسى المصرى، اتسمت بالنزعة التعميمية ، المختلطة بالوطنية، والنزعة الدستورية ، والسعى إلى الاستقلال الوطنى، ومن ثم كانت الأطروحات الفلسفية ، والسوسيولوجية  محدودة حول الدولة والسلطة والدستور، والقانون، والحرية .. إلخ في الدراسات حول تاريخ القانون المصري ، او الدراسات الفلسفية ااو السوسيولوجيا القانونية حتي مع نشأة الجامعة المصرية ، حيث سيطرت الوضعية القانونية فيما وراء التشريعات وتأويل نصوصها . كان التمييز بين مفهوم الدولة الرمزي المتعال عن  أركانها ، والنظام البرلماني وسلطاته الثلاث ، وجهاز الدولة  البيروقراطي يتسمُ بالوضوح لدي الفقه والقضاء المصري ، وايضاً في الثقافة الدستورية والسياسية في المرحلة شبه الليبرالية ، وخاصة مع دراسات وكتب فقه القانون العام الدستوري والإداري .

من ثم غاب عن بعض المقاربات السياسية والدستورية للدولة، والقانون الأبعاد الفلسفية ، وساد بعض من التشوش الجزئي بين  مفاهيم الدولة، والسلطة، والقانون والحريات  مع مرحلة نظام يوليو في بعض الوعي  السياسي شبه الجمعي  في ظل نظام التعبئة ، ودمج السلطات علي الرغم من أن مفهوم الدولة ساد وترسخ نظريا ومع بعض التطور في دراسات العلوم السياسية ونظرياتها ناهيك عن الفقه الدستوري وخاصة مع دراسات وكتب بعض أساتذة العلوم السياسية وبحوثهم واطلاعهم علي الادبيات النظرية الانجلو أمريكية وتطوراتها ، وخاصة الإنتاج العلمي منذ عقود الستينيات والسبعينيات حتي عقد التسعينيات من القرن الماضي وحتي الآن ، في ذات الوقت نادرة وشحيحة جدا المقاربات السوسيو- سياسية ، والسوسيو – قانونية لعلاقة الدولة ، والقانون بالصراعات والمنافسات ، والتوازنات بين القوى ، والشرائح الاجتماعية المختلفة، – ومن ابرز ما كتب في هذا المجال كتب ودراسات  ثروت أنيس الأسيوطي – وطبيعة المصالح الاجتماعية الغالبة  فى  تحيزات الدولة  والنظام ، والتي كانت تحملها بعض الأنساق القانونية وتنحاز إليها السلطة الحاكمة بعد نظام يوليو ١٩٥٢ ، وتحولاته وتغيراته من الناصرية إلي عهدي السادات ومبارك وإلي الآن  .

 الأوضاع في الدول العربية مابعد الإستقلال تختلف عن الحالة المصرية التاريخية والاجتماعية والقومية ، كانت غالبيتها الساحقة، مجتمعات انقسامية – دينية، ومذهبية وعرقية، وقبلية ، وعشائرية، ولغوية ومناطقية – من ثم كانت مقاربة الدولة  ككائن متعالٍ ، وشخصية معنوية ، يشوبها بعض من الغموض والتداخل والأختلاط  بالسلطة ، وقواعدها الاجتماعية ومصالحها ، ومن ثم غلبت المقاربة المجازية للدولة في المشرق العربي ،  والسودان ، والمنطقة المغاربية   التى ارتكزت على إيديولوجيات ما بعد الكولونيالية، وخطاباتها الوطنية والشعبوية حول الاستقلال الوطنى والسيادة، فى نظم تسلطية أو استبدادية عربية. .

هذا النمط من المقاربات الشكلية  لمفاهيم الدولة والدستور،  والنظام ، والقانون، والسيادة والاستقلال والعدالة، لم  تستصحبُ معها غالبا التطور التاريخي ، والفلسفي ، والسياسي، والاقتصادى والاجتماعى للدولة/ الأمة الأوروبية ، الذي لم يتحقق في غالبُ المجتمعات والدول العربية  إلا في المثالين المصري ، والمخزني المغربي ، ونسبياً تونس .

من هنا ساد بعض من الخلط والتشوش بين الدولة والنظام والحكم والحاكم الفرد ، بالنظرات الدستورىة ، والقانونية الشكلية والتجريدية ، واطلاق هذه الإصطلاحات ، والمفاهيم، وكأنها قد تجسدت فى الواقع الموضوعى التاريخى فى كل مجتمع انقسامى، ونظام تسلطى، واستبدادي عربي، يحمل فى أعطافه تحيزاته ، ومصالحه اعتمادا على قواعده الاجتماعية التى جاء منها الحاكم/ الزعيم الفرد ، والاتباع والموالين من مراكز القوي حوله  ، بقطع النظرعن أيديولوجيا النظام ، ومجازاته السياسية المفرطة، وتبنى المصطلحات والمفاهيم الأوروبية، دونما تحقق لتجسداتها التاريخية التي نمت ، ونضجت وتمت   في غمار تحولات الدول والمجتمعات والنظم الديمقراطية  والرأسمالية الأوروبية.

مرجع ذلك أفتنان بعض من  قادة الاستقلال الوطنى وخلفاءهم  ببعض المصطلحات  الحداثية ، ومنها الدولة، والاستقلال، والسيادة الوطنية، والعدالة الاجتماعية، وسيادة القانون، وهى اللغة التى تمت استعارتها من المرجعية الأوروبية، وذلك كمحضُ  لغة دستورية  ، وسياسية وقانونية لكن دون غالبُ محتواها ودلالاتها، وفى جذورها الفلسفية الغائبة نسبياً ، وتناقضات بعضهم فى الممارسة والسلوك الدستورى والتشريعى، والسياسى عن هذه المفاهيم التي رفعها وتبناها لغويا في بنية خطابهم السياسي  !  .

كانت المفاهيم السابقة، مع مفهوم السيادة الشعبية ، وتحالف قوى الشعب العامل ، والسيادة والاستقلال الوطنى، والاشتراكية الغربية، محض لغة سياسية وإيديولوجية تنتج بألحاح  خطابيا واعلاميا ، لكن فى الفراغ فى مجتمعات انقسامية ونظم استبدادية وتسلطية، بينما الواقع الاجتماعى وبنياته الانقسامية، والسلوك السلطوى مفارقًُ  فى مقاربتهم وسلوكهم السياسي لمعاني الدولة، والأمة ، والقانون والعدالة، وكأن ثمة دولة قد تحققت شرائطها الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية التاريخية فعلياً ! ، بينما الواقع الموضوعى والتاريخى يشير إلى هشاشة هذه الدول الانقسامية واختلالاتها البنيوية والوظيفية، وانها مختزلة فى مفهوم السلطة  الطغيانية المتغلبة التى لا ضوابط على سياساتها ، وسلوكها السياسى.

في اعقاب  الحرب العالمية الثانية  ، وصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، والحرب الباردة ، والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان ، كانت  هذه المنظومة  جزءا من هذا الصراع بين الكتلتين الرأسمالية والماركسية  ، وجزءا مما كان  يطلق عليه القوة الناعمة الأمريكية والأوروبية ، وقوتها التأثيرية في العلاقات الدولية مع القوة الصلبة ، وتشكيل القوة الذكية – الولايات المتحدة الأمريكية – . من ثم كان امتثال دول العالم العربي وسلطاته الحاكمة الإستبدادية والتسلطية مابعد الإستقلال لهذه الأتفاقيات جزءا من أقنعة تجميل وجوه السلطات الطغيانية التي وقع غالبهم عليها  ، وصادقوا – مع تحفظات بعضهم عليها بما لايتنافي مع احكام الشريعة الإسلامية  –  إلا أن ذلك لم يغير طبيعة الطغيان ، والإستبداد ، والتسلطية السياسية في الدول العربية الهشة ، ولم تؤدي هذه الإتفاقيات الحقوقية إلي إصلاحات قانونية ، تؤدي إلي تحرير النظم القانونية  القائمة من القيود الثقلية علي الحريات العامة ،  والمبادرات الفردية ، ومن ثم نحو تبني فعال لحقوق المواطنة والحريات الدينية ، والأكاديمية والبحثية . مرجع ذلك ان السلطات الطغيانية العربية تري في الحريات خطرا يهددُ سلطتها . كان نظام يوليو التسلطي في مراحله المختلفة  يوظف نظام الطوارئ في الضبط والسيطرة السياسية والأمنية علي ” المواطنين ” دونما تحقق لحقوق المواطنة ، وتطبيقها بفاعلية في الواقع اليومي  في علاقة الفرد بالدولة والسلطة وغيره من المواطنين .

 من الملاحظ في ظل نظام يوليو ١٩٥٢ كان مفهوم الدولة  ، والتمايز بينه بينه ، وبين سلطات الدولة وأجهزتها المختلفه واضح ، وذلك كأحد مواريث ، وفوائض المرحلة شبه الليبرالية علي مستوي النخبة القانونية المصرية وجماعاتها .   استمر الوضوح التاريخي لمفهوم الدولة  في نظر غالبُ النخبة السياسية المصرية – البيروقراطية والتكنوقراطية – وكانت الدساتير المتعاقبة محض أدوات  تحوزها السلطة الحاكمة ، وتخضع لتفسيراتها وتعديلاتها ، من خلال رجال القانون من الموالين والتابعين لها في كل مرحلة من مراحل تطور نظام يوليو -لاسيما في عهد السادات – ، وتمركزت السلطة عند قمة النظام ، ومراكز القوة حوله ، وكان دمج السلطات سمت النظام التسلطي ، وعلامة دالة عليه .

 أدت التسلطية السياسية في ممارساتها وسياساتها التشريعية ،إلي إنتاج تسلطية قانونية في المنظومات القانونية بما فيها منظومة حقوق الإنسان  – في ظل استمرارية لنظام الإستثناء / قانون الطوارئ – ، والميل إلي النزعة التجريمية المفرطة التي تزايدت بأفراط  – في عهدي السادات ومبارك وإلي الآن – ، علي نحو أدي إلي شيوع بعض الخلط في الوعي الجمعي بين قانون الدولة ، وقانون السلطة ، وبينها ، وبين الدولة ، وهو تشوش مستمر كنتاج للأنفجار التشريعي   وتعديلاته المستمرة الدالة علي تراجع الفن القانوني وعدم استيعاب المشرع ومن هم وراءه للظواهر الاجتماعية والتوازن بين المصالح المتصارعة او المتنافسة ، والنظرات الجزئية اثناء اعداد مشروعات القوانين وتمريرها وإصدارها دونما رؤي متكاملة تستصحب المستقبل  ،  ناهيك عن تمدد وتكثف  ظواهر الفوضى ، ووهن فاعلية القانون في الضبط الاجتماعي والاقتصادي ، وانتشار ثقافة  الفساد ، وإنتهاك قواعد القانون في غالب تفاصيل الحياة اليومية .

من  بين ظواهر التخليط بين مفهوم الدولة والقانون والسلطة توظيف االدين في السياسة ، والسياسة التشريعية والخطاب السياسي السلطوي والمعارض  في عهدي السادات ومبارك وإلي الآن . كانت  السياسة الدينية السلطوية ترتكز علي استخدام السلطة الوظيفي للدين في السياسة ،والشرعية السياسية للنظام ، وتديين بعض القوانين علي نحو ادي إلي تسلطية دينية تمثل قيدا علي إنتاج التشريعات ، وخاصة في ظل النص الدستوري – المادة الثانية – الذي تم وضعه في دستور ١٩٧١ ، واعتبار مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع ، تعديل الصياغة بعد زيارة السادات للقدس إلي المصدر الرئيسي للتشريع .،وبات هذا النص ضابطا وقيدا علي وضع وإصدار القوانين من البرلمان ، وخاصة المقدمة في الغالب الأعم من السلطة التنفيذية إلي السلطة التشريعية في ظل الخلل في توزيع القوة بين السلطات الثلاث  .

ساهم تمدد الحركات الإسلامية السياسية والسلفية ، وخاصة جماعة الأخوان المسلمين في الضغط علي السلطة في اقتراح ووضع وإصدار القوانين وعدم مخالفتها لأحكام النظام الثانوي للشريعة . من ناحية أخري ، تحول شعار تطبيق الشريعة إلي آداة سياسية ، وتشكيك في مدي الشرعية الدينية للقوانين الوضعية ، وهو ما ساهم في إضعاف فاعلية القوانين في الواقع والوعي الاجتماعي لغالبية أبناء الشعب المصري ، وسوف لدي بعضهم إنتهاك القوانين ، وعدم الأمتثال لها في علاقاتهم بالدولة والسلطة ، وفي معاملاتهم مع بعضهم بعضا .

تزايدت الدعوات لتطبيق الشريعة في اعقاب الانتفاضة الشعبية  الكبرى في ٢٥يناير٢٠١١ ومابعد ، ووصول الأخوان المسلمين والسلفيين إلي السلطة ، وخاصة بعد دستور ٢٠١٢ .

ثمة غياب لتراث فلسفي وسياسي وتاريخي  في الفكر العربي وفي الثقافة السياسية السائدة قبل وأثناء الحكم الإستعماري وبعده ، حول التمايزات بين مفهوم الدولة الأمة ، ومفاهيم الحرية والمساواة والمواطنة ، والسلطة ، وذلك خارج تقاليد الفكر الديني النقلي الإتباعي والسلطاني المتغلب  ، ومن ثم أدي ذلك إلي تداخل بين هذه المفاهيم مع الموروثات  ، والسرديات الدينية الإسلامية الوضعية مع هذه المفاهيم الحداثية . من هنا شاع الأختلاط بين هذه المفاهيم والسلطة المتغلبة والسلطان المتغلب في واقع الحياة العربية ، وخاصة في ظل موت السياسية في هذه المجتمعات ، وخاصة بلدان الريع النفطي في شبه الجزيرة والخليج العربي .

لا شك أن السلطة الطغيانية ، وبنيتها، وقاعدتها الاجتماعية ودوائر بنية القوة الرعناء إزاء الغالبية الشعبية تعتمد ولاتزال على شرعية “القوة الغاشمة”، وتأويلاتها وإسانيدها  الدينية، واللغة السياسية والإيديولوجية داخل سردية الدولة والسيادة  ، والاستقلال ، والدستور، والقانون والعدالة، وهى سردية سياسية محمولة على لغة الفراغ أو اللغة الخشبية وفق التعبير الفرنسي ، أو اللغة والكلام الساكت، وفق التعبير السودانى الذائع ، أى اللغة الميته، لجهاز الدولة الأيديولوجى، وخطابه السياسى. مابعد الإستقلال ، ولايزال في غالبُ البلدان العربية .

كانت الممارسات السلطوية الغشوم بعد الاستقلال من نير الاستعمار الأوروبي البغيض تنفي اللغة فى معتقلات الإيديولوجية، حيث الدساتير والقوانين محض انساق فارغة من مضامينها  ، والحاملة لتحيزاتها حول مصالح القوي الاجتماعية المسيطرة ، وتحول بعض النظم إلي سياسة الجباية،  وباتت وظيفة هذه القوانين وانحيازاتها الاجتماعية  الخطاب السياسي السلطوي الخداع والتبرير، وتسويغ سياسات وقرارات السلطة الحاكمة، ومصالحها الاجتماعية الضيقة في الغالبُ الأعم ، وذلك تحت مفاهيم العدالة الاجتماعية  –باستثناء الحالة الناصرية وتوسيع قاعدة التعليم، والسياسات الاجتماعية فى ظل نظام رأسمالية الدولة البيروقراطية- ثم الأنفتاح الأقتصادي والإصلاح الأقتصادي في عهدي السادات ومبارك ، ومابعد حول الجمهورية الجديدة بينما الواقع الاجتماعى يتسم بالاختلالات فى مجال توزيع الثروة ،  والأخطر مصادرة  السلطة الحريات العامة والفردية فى الواقع، وإنتاج شبكات من القوانين المقيدة  للحريات واعتقال المعارضين آيا كانت توجاتهم الإيديولوجية ، في عديد البلدان العربية قبل وبعد الربيع العربي المجازي ، وفشل تجارب الانتقال الديمقراطي .

في الأنظمة الملكية والأميرية والمشيخية ، الخلط بيّن في توظيف مكثف لمفهوم الدولة  والسيادة في الخطاب السياسي والإعلامي في دول الريع النفطي ، بينما الواقع ينطوي علي خلط بين سلطة الحاكم المتغلب وبين الدولة ، في ظل غياب للحريات العامة ، ومصادرات لها ، ومفهوم الولاء للحكام وعائلاتهم الحاكمة، وذلك في مقابل حرية الإستهلاك المكثف  .

أدت معتقلات العقل والضمير والرآى والتعبير في غالب البلدان العربية  بعد الإستقلال  فى مجال الحريات الاكاديمية. إلى ضعف ومحدودية الدراسات  التأصيلية والتحليلية والفلسفية للمفاهيم الكبرى وسردياتها وممارساتها، وانفصالها عن جذورها الفلسفية ، والسوسيولوجية  والاقتصادية إلا قليلا، مع  الإنتاج المعرفي لعديدين ومنهم عبد الله العروي ، ومحمد عابد الجابري ، وعبد الإله بلقزيز ، ومحمد المعزوز ، وعلي أومليل ، في المغرب ،  وبعضهم في المشرق العربي مثل ناصيف نصار ووجيه كوثراني  في لبنان ، وصادق جلال العظم ، وإلياس مرقس ، والطيب تيزيني ، وبرهان غليون في سوريا  ، وهو إنتاج معرفي متميز ، ويختلف عن الكتابات الدستورية عن الدولة . بعض الكتابات الدستورية  السائدة عربيا أدت إلى هيمنة اللغة الدستورية . الكتابات الإيديولوجية كانت محمولة علي اللغة المجازية الأنشائية الفارغة ، ومفاهيمها المؤسسة على سرديات كبرى، بينما كان الواقع السلطوى  الطغياني ، والقوة العمياء، كاشفة عن انفصال اللغة السياسية، والخطاب المحمول عليها، عن الواقع الموضوعى المعاش، حيث اللغة الشعبوية التي سادت مابعد الإستقلال كانت تعبيراًعن واقع  حالات موت السياسة  فى “الدولة/ النظم التسلطية والاستبدادية العربية”، والمفاهيم، واللغة المحلقة فى الفراغ والفاقدة  لمعانيها ودلالاتها، وهو ما تجسد فى صدمة هزيمة يونيو، ثم ما بعد نهاية الحرب الباردة ، وإلى العقود  الاولي والثانية والحالية من تحولات القرن الحادى والعشرين العاصفة .

 

المصدر: الأهرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى