تتابع الولايات المتحدة الأميركية لعبة خلط الأوراق في سورية، بإعلانها أخيرا توقيع اتفاقية استثمار النفط في شرق الفرات مع “قوات سوريا الديمقراطية”، وهي إذ لا تأتي بجديد على الواقع السوري المبعثر بين دول الصراع في سورية (روسيا، إيران، تركيا، والولايات المتحدة وإسرائيل)، من حيث أدوار هذه الدول مع الجهات السورية التي تستقوي بها ضد القوى المحلية الأخرى، فإنها (هذه الدول) جميعاً، أجرت تقزيما للهياكل السورية على ضفتي الصراع، وكادت أن تصبح الجهة السورية غير مرئيةٍ إلا من خلال الهامش التي تسمح به الدولة الراعية، في سابقةٍ تاريخيةٍ تصبح من خلالها الفرق المتصارعة داخليا “معرّفةً” بجهة تمويلها الخارجي.
إذ ينقسم النظام بين إيران وروسيا، تنقسم المعارضة أيضاً بين تركيا ومحور الغرب ممثلاً بالولايات المتحدة، مع وجودٍ غير محسوم الموقع (بين معارضة أو نظام) لفرق أو تنظيمات سورية على قائمة التبعية الروسية أو الإيرانية، أو حتى بين محوري الخليج العربي، سيما (السعودية وقطر)، على الرغم من تضاؤل حجم فاعلية التدخل العربي في الصراع السوري خلال السنوات الأخيرة التي روج فيها المجتمع الدولي دورا سعوديا في تشكيل المعارضة، بدءا من مؤتمر الرياض 1 عام 2016 الذي نتج عنه الهيئة العليا للمفاوضات لقوى الثورة والمعارضة السورية بتشكيلتها الأولى، والثانية بعد مؤتمر الرياض 2 عام 2018، وما حدث بعد ذلك من تشرذمات داخل كيانات المعارضة، وصولاً إلى حالة التصدّع الداخلي التي يعيشها وفد المعارضة وانقسامات بشأن شرعية التمثيل داخله إلى كيانات ومستقلين.
فوّض النظام السوري كلا من إيران وروسيا إدارة مراكز وموانئ ومؤسسات تمثل شريان الحياة الاقتصادية، بعد أن تصاغر دور وفاعلية جيشه العسكري، ليصبح ملحقا تنفيذيا للعمليات العسكرية التي تجري داخل سورية بقيادة جوية روسية، وأرضية إيرانية، ومن ثم نزعت روسيا عن النظام أي صفةٍ تمثيليةٍ في عمليات التفاوض، سواء مع الأطراف الداخلية المعارضة له، أو مع الدول المتصارعة في سورية وعليها، بدءاً من حليفته إيران التي أصبحت تدور في فلك الوجود الروسي وتختبئ خلفه في أي عمليةٍ سياسيةٍ دولية، ووصولاً إلى التفاهمات الروسية مع كل من تركيا والدول الأوروبية (المانيا، فرنسا، بريطانيا)، والمرحلة الأهم لروسيا كانت بإعادة مقعدها المقابل إلى الولايات المتحدة الأميركية على طاولة المفاوضات، تحت عناوين متغيرة، تارّة لتحريك العملية السياسية، وأخرى لنزع فتيل الاقتتال، وثالثة للبحث في مصير إيران وغيرها.
على الجهة المقابلة للنظام، وفي إجراءات متساوقة معه، تم إبعاد التمثيل المعارض الحقيقي، لتضع تركيا نفسها بديلاً عنه، ومقرّراً له ، سواء في العمل العسكري الميداني، أو في المهمة السياسية التفاوضية، وأصبحت كيانات المعارضة (في الشمال وإسطنبول) مرتهنةً للتطورات العسكرية ولمساراتها، وضمناً لمن يقودها. وبذلك أصبحت تركيا هي المعنية أو المقصودة بالحديث عن المعارضة أو التفاوض، ما يعني خلو الساحة من الأطراف السورية لحساب الدول المشغلة لهم، وتماشي “المعارضة” مع النظام في لعب دور “الكومبارس” في القضية السورية.
ووفق ذلك، نشأ الدور التكاملي بين تركيا وروسيا في تقويض ما يمكن تسميته الحل السياسي الذي تدعو إليه الإدارة الأميركية، مقدمة ضرورية وملزمة لعملية إعادة الإعمار، وهو ما يمكن تسميته الدور المزعج للولايات المتحدة، والذي يعني تفاهماتٍ خارج النص المسموح به أميركياً، ما جعلها تنتقل من دور المراقب لأداء الأطراف، والتحكّم عن بعد في مساحات حركة الممثلين، إلى دور فاعل ومؤثر بدلالات وجودها في المنطقة، ورعايتها ما يمكن تسميته التوافق الكردي – الكردي، ,الذي يعني إرجاع الكرد من حافّة انقسامهم المعلن إلى التجمع حول مصالح اقتصادية، قد تكون مقدمةً لمصالح سياسية قابلة للتفسير في اتجاهات مختلفة:
– حرمان روسيا وإيران والنظام من عوائد نفط المنطقة، ليس لأهميتها، بل لتضييق الحصار تنفيذا لقانون العقوبات الأميركي (قيصر) على النظام، ما يُلزم كل الأطراف المتضرّرة الإسراع في بدء العملية السياسية المقيدة بشروط أميركية صارمة، سواء في تغيير سلوك النظام السوري مع معارضيه، أو في تعاطيه مع المنظمات الإرهابية والدولة الداعمة لها (إيران).
– سحب البساط من تحت أقدام روسيا بما يتعلق بشق الصف الكردي، واللعب على الخلافات مع المجلس الوطني، واستقطاب “قوات سوريا الديمقراطية” لتكون ذراعا كرديا لروسيا في المنطقة، وعدم استخدامه كنقطة ضغط يمكن تحريكها ضد المصالح التركية عند تعثر مفاوضاتهما المشتركة بما يتعلق بعفرين ومناطق الشمال الشرقي من سورية.
– هو تصريح أميركي بإعادة تموضعها ليس في حقول النفط، ولكن داخل صفحات أي اتفاق يعقد في المنطقة. وبالتالي، رعايتها “قوات سورية الديمقراطية” اقتصادياً هو مقدمة لرعاية سياسية قادمة، تمثل في أحد وجوهها عناوين عريضة لنوع الحوار الذي يجب أن يدور حول دستور سورية، وشكل الدولة السورية الجديدة، ما يعني فتح الحوار الجدّي مع تركيا من خلال واقعة نفط الكرد، حول مصير الكرد في سورية الجديدة، بما يحمله ذلك من تهديدات من جهة، أو تطميناتٍ من جهة مقابلة، تؤكد أن الكرد جزء من التوليفة السورية، لا يمكن إبعادهم خارج النص الدستوري، إلا إلى كيان مستقل، وهذا ما لا تريده تركيا وتعمل على إبطاله. وهنا يأتي الدور الدبلوماسي التركي في استيعاب أهمية المصالحة الكردية، والدفع بها لإبعاد قيادة القيادة في جبال قنديل عن المنطقة، والتسليم بسوريتها مع تنوع قومياتها.
يمكن قراءة الاتفاق النفطي الموقع مع قائد “قوات سورية الديمقراطية”، مظلوم عبدي، بلغات عديدة ومضامين كثيرة، أخطرها إرادة الإدارة الأميركية توزيع الشرعية بالتساوي بين الأطراف السورية المتصارعة، لتوقيع عقود خارجية مع الدول، ما يجعل النظام في مأزق، والمعارضة في مأزق، والكرد أمام اختبار قوي يراقبهم شعبهم داخلياً والدول الغربية الداعمة لهم خارجياً، لمعرفة قدرتهم على إدارة توافقاتهم البينية من جهة، والاندماج في مشروع شامل للحل السياسي السوري من صف المعارضة، وليس النظام.
المصدر: العربي الجديد