تتصاعد الأزمة الداخلية ضمن هياكل الاتحاد العام التونسي للشغل، في ظلّ المطالب التي ترفعها المعارضة النقابية لعقد مؤتمر استثنائي لاختيار قيادة جديدة للمنظّمة العمّالية. وتأتي هذه التحرّكات، تقودها قيادات نقابية، ضمن سياق عام لحالة من الشلل يعانيها الاتحاد، سواء في أدائه مهمّته المطلبية للدفاع عن حقوق منظوريه، أو في عجزه عن لعب دوره المعتاد في المجال السياسي، وهو الذي أسهم بقسط وافر في صناعة المشهد العام طوال العقد الذي أعقب سقوط نظام زين العابدين بن علي سنة 2011.
ساهمت القيادة الحالية في الأزمة المستشرية حالياً، فأصرت على عقد مؤتمر استثنائي في يوليو/ تمّوز 2021، أدّى إلى تعديل المادة 20 من القانون الداخلي للمنظّمة، الأمر الذي منح عناصر القيادة الحالية الفرصة للاستمرار في مواقعهم وقطع الطريق أمام إمكانية التداول على القيادة، وهي خطوة اعتبرتها المعارضة النقابية ضرباً لمبدأ ديمقراطية الاتحاد. ومثلما تمكّنت القيادة الحالية من فرض أجنداتها الداخلية في المؤتمر الاستثنائي، تجد نفسها حالياً في ورطة حقيقية حول كيفية التعامل مع معارضيها، خاصّة أنها لم تعد تملك هامشاً للمناورة في ظلّ فقدانها السند من القواعد العمّالية، وتراجع تأثيرها وعجزها عن إيجاد قنوات للتفاوض مع الحكومة، فضلاً عن أن تكون شريكاً في إدارة الشأن العام، كما اعتادت قبل إجراءات 25 يوليو (2021) التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيّد.
زاد التنازع الداخلي في ضعف الاتحاد العام التونسي للشغل في ظل حالة التهميش الحكومي، واستبعاده من موقع الشريك
الأزمة الحالية مُرشَّحة لمزيد الاستمرار والتفاقم، فالقيادة الحالية تصرّ على البقاء حتى 2027، موعد انعقاد المؤتمر المقبل، والأكثر أهميّة أنه حتى في صورة انعقاد مؤتمر استثنائي، المعارضة النقابية غير قادرةٍ على الفوز انتخابياً، فالأمين العام الحالي نور الدين الطبوبي لا يزال ممسكاً بخيوط اللعبة، ويحظى بتأييد ممثّلي العمّال، في ظلّ نظام انتخابي غير مباشر وفق محاصصاتٍ متعارف عليها، ويمكن توقّع نتائجها قبل التصويت. المشكلة أن حالة الصراع بين الطرفَين المتنازعَين حالياً من قيادات المنظّمة النقابية تغلب عليها المصلحة الشخصية أكثر ممّا هو خلاف بين توجّهات سياسية أو تيّارات أيديولوجية أو حتى دفاعاً عن ديمقراطية المنظّمة.
حالة الجمود في العمل النقابي وانكفاء المنظّمة على نفسها، وانغماسها في الصراعات الداخلية، هو انعكاس للمشهد السياسي العام، وفي الوقت نفسه، تعبير عن تراجع أهمّية العمل النقابي، الذي أصبح أقلّ قيمةً ممّا كان عليه في العقود الماضية. فقد شهد الاتحاد تحوّلات مختلفة خلال مراحل الحكم المتنوعة التي شهدتها البلاد، فمن دور حليف السلطة في أثناء دولة الرعاية، زمن الفترة الأولى من حكم الحبيب بورقيبة، إلى قائد الاحتجاجات مع بداية المرحلة النيوليبرالية (حكومتَي الهادي نويرة ومحمد مزالي)، ثمّ العودة إلى حضن السلطة زمن حكم بن علي، ليتحوّل شريكاً في القرار في أثناء العشرية الديمقراطية، وهو اليوم يعاني حالةً من الضبابية السياسية التي لا يمكن توقّع نتائجها.
ويتعلق الجانب الآخر من الأزمة بطبيعة الشريحة الاجتماعية للذين يبقون النقابات في قيد الحياة.
يحتاج الشغل إلى إعادة بناء الثقة مع القواعد العمالية بترسيخ مبدأ الشفافية والمساءلة، وهو ما يبدو بعيد المنال في اللحظة الراهنة
وفي حين أن النشاط النقابي في معظم البلدان ذات المؤسّسات القديمة يعاني من الشيخوخة والتآكل العام، لا تزال هذه الأبعاد غير واضحةٍ بشكل جيّد في تونس، حيث تُظهِر الدراسات، على سبيل المثال، أن الموظفين الناشطين نقابياً ينتمون إلى فئات عمرية تزيد عن الأربعين في المتوسّط، وغالبهم من الذكور، وينتمون إلى طبقات عمل مستقرّة. كما أدّت الإصلاحات الاقتصادية المختلفة ذات المنحى الليبرالي إلى نشأة ما تُسمَّى “البيروقراطية النقابية”، التي تحوّلت نضالاتها محاولةً لجعل الكادحين مُجرَّد “شركاء اجتماعيين”. ومعروف أن المنتمين إلى قطاع الوظيفة العمومية هم القاعدة المركزية لاتحاد الشغل التونسي، وهؤلاء ليسوا بروليتاريا بالمعنى المتعارف عليه في الدول الصناعية، وفي ظلّ ميل الدولة إلى تخفيض عدد الموظفين، سيجد الاتحاد نفسه تدريجياً أقلّ نفوذاً وتأثيراً. وزاد التنازع الداخلي في ضعف المنظّمة في ظل حالة التهميش الحكومي لها، واستبعادها من موقع الشريك.
تاريخية العمل النقابي في تونس، وحضوره الدائم في المشهد العام، يفرض على القيادة الحالية لـ”الشغل” مراجعة حساباتها، وتطوير استراتيجياتٍ جديدةٍ لجذب وتنظيم الشباب العاملين خارج القطاع العمومي، وهو ما يُشترِط أولاً، إعادة بناء الثقة مع القواعد العمالية عبر ترسيخ مبدأ الشفافية والمساءلة، وهو ما يبدو أمراً بعيد المنال، على الأقلّ في اللحظة الراهنة.
المصدر: العربي الجديد