لعلّ الناظر إلى الساحة السورية من خارجها يكون أوفر حظاً في رؤية تشابكات المصالح الإقليمية والدولية المعقّدة، لكنّ الفهم الأعمق يستدعي بالضرورة قراءة الخارطة الداخلية المكتظّة بالفواعل العسكرية والسياسية والمجتمعية المختلفة.
عنونت قناة دبي التلفزيونية أحد برامجها الحوارية بـ”تحالف أعداءٍ في هيئة أصدقاء يُخرج سوريا من عرين الأسد”، وهذا هو الذي حصل فعلًا للانتقال من حالة السبات الطويلة التي مرّت بها سوريا خلال الأعوام الماضية، إلى حالة أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها دراماتيكية متسارعة تحبس الأنفاس.
وجدت روسيا نفسها مضطرّة إلى مقايضة حليفٍ جلفٍ غبيٍّ لا يفقه إلا لغة التعنّت والانتقام بشيء من التساهل في ملف حربها على أوكرانيا، فدونالد ترمب قادم خلال أسابيع إلى البيت الأبيض وعلى بوتين أن يقدّم عربون صداقة أولًا، خاصّة وأنّه واجه صعوبات في الحفاظ على نظام الأسد بعد أن غيّرت إسرائيل ومن خلفها الغرب كلّه معادلات الشرق الأوسط جذرياً.
الفراغ الكبير الميداني في سوريا والذي أحدثه سحق “حزب الله” الإرهابي في لبنان، كان له أكبر الأثر في القرار الروسي رفع الغطاء عن الأسد، الذي جلبه بوتين إلى موسكو ليقايض به ربّما لاحقاً على بعض النفوذ في مياه المتوسط.
تركيا التي تمهّلت كثيراً وتردّدت أكثر في فترات سابقة، أقدمت اليوم على الخطوة الحاسمة التي جسّدت نقطة تلاقي المصالح المختلفة.. لقاء العرب والأتراك في عمّان سيكون عنوان تقاسم الأدوار وتثبيت المصالح والحدود.
ثمّة ثلاث قوى عسكرية رئيسية في سوريا اليوم، تتمثل الأولى بما أصبح يعرف باسم “إدارة العمليات العسكرية” والتي تقودها فعلياً أكبر قوّة منظمة ضمن مجموعة القوى المشكلة لها، ونعني بها “هيئة تحرير الشام”..
في لحظات كثيرة من تاريخ الصراع في سوريا كان تضارب المصالح الخارجيّة هو العامل الحاسم في تأجيل الحل السوري، واليوم بعد أن اندحر النظام الاستبدادي مع انكسار شوكة محوره الداعم في إيران تحديدًا وضعف الحليف الأكبر في روسيا، بات تجاذب المصالح الداخلية هو المشكلة التي يجب النظر إليها بجديّة أكبر.
ثمّة ثلاث قوى عسكرية رئيسية في سوريا اليوم، تتمثل الأولى بما أصبح يعرف باسم “إدارة العمليات العسكرية” والتي تقودها فعلياً أكبر قوّة منظمة ضمن مجموعة القوى المشكلة لها، ونعني بها “هيئة تحرير الشام”، تتمثل هذه القوّة سياسياً عبر ما بات يعرف باسم “الإدارة السياسية” وإدارياً بـ”حكومة تسيير الأعمال” التي أتت كليّاً من “حكومة الإنقاذ”، التي كانت تدير إدلب خلال السنوات الماضية.. غنيّ عن القول إنّ الرجل الأقوى في كل هذه التركيبة هو أحمد حسين الشرع المعروف سابقاً بلقب (أبو محمد الجولاني).
القوّة الثانية المنظّمة بشكل جيّدٍ، حتى الآن على الأقل، هي قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والتي تتمثل سياسياً عبر “مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد)، وهو المجلس الذي يضمّ عدداً من الأحزاب الكردية أكبرها وأهمها “حزب الاتحاد الديمقراطي – PYD” وعدداً من القوى السياسية العربية والسريانية وعدداً من ممثلي العشائر.. وتتمثل هذه القوّة إدارياً عبر ما بات مشهوراً باسم “الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا”.
أمّا القوّة الثالثة فهي الجيش الوطني المشكّل من مجموعة كبيرة من الفصائل المسلّحة المحلية، والتي أتى بعضها من المدن السورية المختلفة في فترات متلاحقة من تاريخ الصراع والتهجير، وهي تشمل جميع محافظات القطر باستثناء اللاذقية وطرطوس والسويداء، وبعضها الآخر تشكّل خلال هذه الأعوام من أبناء المنطقة الشمالية الغربية، أي إدلب وحلب.. تتمثل هذه القوى سياسياً من حيث الشكل بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وإدارياً بالحكومة السورية المؤقتة.
إضافة إلى ما سبق، ثمّة قوى محلية مختلفة تجمع بين الفواعل العسكرية والمدنية والمجتمعية، كما هو الحال في درعا والسويداء، وكما هو الحال في الكيانات السياسية والمدنية المختلفة التي تشكّلت على مدار السنوات الماضية داخل سوريا وخارجها وبالتزاوج بين الداخل والخارج في كثير من الأحيان.
لايمكن بكل الأحوال إغفال دور هذه الفواعل في التأثير العام بالمشهد السوري، فمجموعات الضغط السورية في الولايات المتحدة على سبيل المثال، والتي من بينها منظمات سياسية ومدنية وإغاثية عديدة، لعبت أدواراً مهمّة في مجالات عدّة، خاصّة منها مجال العقوبات المفروضة على النظام البائد.
كذلك هناك التحالف السوري الديمقراطي الذي يضم بين جنباته 25 كياناً سياسياً و25 منظمة مدنية ومئات الأفراد المستقلين، وهو الكيان الذي أنشئ في العاصمة الألمانية برلين، شهر تشرين الأول / أكتوبر عام 2023، وقد أصبح لاعباً سياسياً ملحوظاً في الساحة السورية بحكم وجوده في بلدٍ تعدُّ جاليته السورية مليوناً أو أكثر قليلًا، وله علاقات مميزة مع الخارجية الألمانية خاصّة والاتحاد الأوروبي عموماً، بحكم انتشار أعضائه على كامل الجغرافيا السورية.
ليس بالضرورة أن تكون كثرة الفواعل المؤثرة في المشهد السوري سلبيّة الأثر على مستقبل البلاد، كما أنّها بالمقابل قد لا تكون إيجابية، مناط البحث في هذه المسألة هو توافق هذه الفواعل على مبادئ وطنية لا يمكن تجاوزها من جهة، وابتداع آليات لتشارك الحلول ومنع تعقيد المشكلات الكثيرة والزائدة عن الحدّ أساساً من جهة ثانية، والقدرة على التفاوض والمساومة ضمن أطر الوطنية السورية لا على أساس المصالح الحزبية أو الفئوية أو الجهوية من جهة ثالثة.
فإذا نظرنا إلى خارطة تحرّك القوى العسكرية التي نفّذت عملية “ردع العدوان”، لوجدنا أنها ما كانت تهدف إلا إلى الضغط على النظام لتغيير سلوكه الرافض للتفاوض، لكنّ انهياره السريع بحكم الفراغ الكبير الذي سبّبه غياب حلفائه، جعل التفاوض أمراً غير ذي جدوى، فانتقلت العمليّة للسيطرة الكاملة وإنهاء النظام كلّه واقتلاعه من جذوره..
فإذا ما اتفق “الأخوة الأعداء” على مبدأ رئيس لا يمكن التنازل عنه من قبيل “سوريا أولًا”، ثم وضعوا معيار المصلحة السورية مقياساً وميزاناً لخلافاتهم، واتفقوا على أن يحكم بينهم ليس الضمير فحسب، بل ومؤسسات دستورية توافقية وشاملة الجميع وغير طائفية ولا مناطقية، مثل جمعية تأسيسية مؤقتة، أو مجلس خبراء تكنوقراط، أو هيئة قضائية دستورية، أو مجلس حكم انتقالي مؤقت.. فإنّهم سيكونون على الطريق الصحيح.
هنا لا بدّ من الإشارة إلا أنّ السياسة تقوم أساساً على مبدأ التفاوض والمساومات، وهذه تستند بالدرجة الأولى إلى موازين القوى والجهات الداعمة، فإذا نظرنا إلى خارطة تحرّك القوى العسكرية التي نفّذت عملية “ردع العدوان”، لوجدنا أنها ما كانت تهدف إلا إلى الضغط على النظام لتغيير سلوكه الرافض للتفاوض، لكنّ انهياره السريع بحكم الفراغ الكبير الذي سبّبه غياب حلفائه، جعل التفاوض أمراً غير ذي جدوى، فانتقلت العمليّة للسيطرة الكاملة وإنهاء النظام كلّه واقتلاعه من جذوره.
إذا ما أصاب الغرور هذه القوّة الرئيسة في عملية الإسقاط، وإذا ما ابتعدت عن الواجب الذي يقضي التفاهم مع بقيّة القوى السورية التي دفعت أبهظ الأثمان على مذبح الحريّة خلال سنوات الثورة الثلاث عشرة، فإنها ستقع في المطبّ الذي نرجو أن تراه وتتجنّبه.
هذه بعضُ التحديات التي يمكن أن تواجه التغيير المنشود في سوريا، وثمّة كثير منها مما سيكون محور الكتابة عنه في مقالات لاحقة.
المصدر: تلفزيون سوريا