ليس من شخصيّةٍ محوريّة تجسّدت في هذا السياق السوريّ المُعقّد، المُمتدّ في مساحة 14 سنةً مضت (عُمر الثورة السوريّة)، كما الشخصيّة المُتسيّدة (الآن) ولفترةٍ ستمدّ على ما يبدو في المشهد السوريّ برُمّته، أحمد الشرع، المعروف بلقبه الحركيّ السابق أبو محمد الجولاني.
وُلِد الشرع لعائلةٍ ميسورة، ودرس الطبّ قبل أن تجتذبه أحداثُ 11 سبتمبر (2001)، وأيديولوجيا الجهاد العالمي، لينضمَّ لاحقاً إلى تنظيم القاعدة في العراق تحت قيادة أبو مصعب الزرقاوي. تلك المرحلةُ التي كانت نقطةَ انطلاقِ مسيرته في عالم الجهاد المُسلّح لم تكن سوى بداية سلسلةٍ من تحوّلاتٍ عبّرتْ عنها صورُهُ التي كانت تتبدّل في كلّ مرحلةٍ بما يتطابقُ مع تغيير تَموضعاته وأهدافه وتحوّلاته الفكرية.
يظهر الجولاني في صورةٍ أولى كاشفاً وجهه للمرّة الأولى في الساحة السورية في 2013، كان ذلك في إطار قيادة جبهة النصرة. يظهر في الصورة مرتدياً زيّاً عسكرياً وعِمامةً بيضاءَ، مُستهدِفاً جمهوراً محلّياً ودولياً يتوقّع منه التمسّك بالمظاهر الدينية والعسكرية، التي تدعم شرعيته في إطار صراعات الهُويَّة الدينية. كان هذا النمطُ من الظّهور ضرورياً في تلك المرحلة لإظهار الالتزام بالمشروع الأيديولوجي العالمي المُرتبط بتنظيم القاعدة، إذ تُعزّز الرموز البصرية مثل العمامة والزيّ العسكري صورةَ القائد المُتماسك مع رسالته، وليبرز رمزاً أيديولوجياً مُتقشّفاً يُعبّر عن الانفصال عن الحياة المادية. تترك الصورة انطباعاً بأنّنا أمام قائدٍ عقائديٍّ تقليدي. النظرة الجادّة والخلفية التي تحمل نصوصاً عربيةً تُوحي بجوٍّ مهيب وبرسالة موجّهة إلى جمهورٍ مُحدَّد. إنّها صورةٌ تصرخ بالنقاء الأيديولوجي، ذلك النقاء الذي يعتبره بعضهم ضرورياً لكسب الحرب. بمعنى آخر، هو إعلانُ موقف عقائديٍّ لا يحتمل الحياد.
مسيرةُ الجولاني من الجهادية العالمية إلى السورية تعكسُ التعقيدَ والتشابُكَ اللذين اتّسمت بهما الثورة السوريّة
في المقابل، تُظهِر الصورة الثانية الرجل نفسه، ولكن في مظهرٍ مُختلفٍ تماماً. يرتدي ملابسَ مدنيّةً بألوانٍ عسكريّةٍ تنتمي إلى عالم الثوار الحداثيين، الذين امتلأ بهم خيال اليسار في منتصف القرن الماضي؛ ملابسَ بسيطةً تُعطي انطباعاً عن شخصٍ مُتواضعٍ وعمليٍّ وحازمٍ في موقعٍ ميداني. الأجواء المُحيطة به تُضفي طابعاً أكثر جدّية وخطراً، وكأنّها محاولةٌ لإظهار جانبٍ مُختلفٍ من الشخصيّة، جانبٍ أكثرَ حزماً. مُحاطاً برجاله، نشعر أنّه يتحدّث عن “المعركة”، كما يستطيع فقط أن يفعلَ شخصٌ جاهزٌ للموت في صُفوفها الأولى. إنّه ينظر في البعيد، ربّما هنا بدأت السياسةُ والتفاعلات الاجتماعيّةُ تبدو أمامه لعبةً طويلةً الأمد، لعبة تُشبه رميَ الكرة على مرمىً بعيدٍ وانتظار النتيجة، أكثر من أن تكون معركةً حاسمةً من المرّة الأولى. وهذا ما يُضيف طبقةً أخرى من التعقيد إلى المشهد المُعقّد أصلاً في شرقنا البائس، فالسياسة هنا تعمل بمنطق أن الفائز يكسب كلّ شيء، أو يخسر كلّ شيء.
يبقى هناك خيطٌ مُشترك بين الصورتَين، فكلتاهما انعكاسٌ لشخصيّةٍ تبدو خطرةً، حادّةَ الإرادة، قادرةً على استخدام المطرقة على الرأس عندما يتطلّب الأمر. يقودنا ذلك إلى تساؤلٍ عميق: هل تُهيمن القوة فقط، أم أن هناك مكاناً للمرونة ولبعض السياسة في الطريق نحو الأهداف في أعماق هذا الرجل؟ أيّ صورةٍ تمثّل الحقيقة؟ هل هو القائدُ العقائديُّ الحازمُ، أم الرجلُ الميدانيُّ العمليُّ؟… ربّما تكمن الإجابة في مكانٍ ما بين الاثنين. التناقض بين الصورتَين لا يُعبّر عن شخصية واحدة، بل عن المشهد السياسي والاجتماعي المُتبدّلِ بأكمله في المنطقة.
تعكس مسيرةُ الجولاني من الجهادية العالمية إلى السورية التعقيدَ والتشابُكَ اللذين اتّسمت بهما الثورة السوريّة، من بدايته قائدَ فصيلٍ مُتطرّفٍ مُرتبطٍ بتنظيم القاعدة، حتّى تحوّله زعيماً يسعى إلى تقديم نفسه جزءاً من الحلّ السياسي في سورية. ظهرت جبهة النُّصرة بدايةً إحدى أقوى التشكيلاتِ المُعارِضة للنظام السوري، المُرتبطة بتنظيم القاعدة، واعتمدت خطاباً أيديولوجياً صارماً يُركّز في إقامة حُكمٍ إسلامي. في تلك الفترة، كان الهدفُ الأساسي للجماعة بناءَ هياكلها الداخلية، وتحقيق أهدافها المُعلَنة، بغضّ النظر عن قَبولها محلّياً أو دولياً. إلّا أن الصراعات الداخلية أدّت إلى إعادة تشكيل أهداف جبهة النصرة. رفض الجولاني الاندماج مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، في خطوةٍ أثارت مُواجهةً مفتوحةً بين الطرفَين. هذا القرار كان بدايةَ مسارٍ طويلٍ من الاستقلال التدريجيّ عن القاعدة، وإنْ كان في البداية تكتيكياً أكثر منه أيديولوجياً، لكنّه سيعبّر عن ولادة نزعةٍ وطنيّةٍ ستظهرُ في الإجراءات التي سيعتمدها لاحقاً في سياق محاربة النظام السوري.
اعلن الجولاني، في عام 2016، انفصال جبهة النصرة عن تنظيم القاعدة نهائياً، وتشكيل جبهة فتح الشام. لاحقاً، اندمجت الجبهةُ مع فصائلَ أخرى لتشكّل هيئة تحرير الشام. لم يكن هذا التحوّلُ مُجرَّد تغيير في الاسم، بل عكَس محاولةً لإعادةِ تقديم الهيئة قوّةً محلّيةً تسعى لتحرير سورية من النظام بدلاً من أن تكون جزءاً من شبكةٍ جهاديةٍ عالميةٍ. بدأت الهيئة تسعى إلى تحسين علاقتها مع السكّان المحلّيين في الشمال الغربيّ لسورية، وأظهرت استعداداً أكبر للتفاوض مع القوى الإقليمية والدولية، خاصّةً تركيا، التي أصبحت لاعباً رئيساً في المشهد السوري.
صورة أحمد الشرع أمام الجامع الأمويّ أحدَ أبرز تجلّيات المشهد السوريّ المعاصر، اللحظة الأكثر أهمّية بعد الاستقلال
الحروبُ طويلةُ الأمد لا تُغيّر موازين القوى فقط، بل تعيد تشكيل الأفراد والجماعات بطرقٍ غير متوقّعةٍ، إذ يعاد تفكيك روايات الهُويَّة الصلبة وتشكيلها. بالإمكان هُنا فهمُ التحوّلات التي خاضها الرجل عمليةَ إعادة بناء شرعيةٍ جديدةٍ تستند إلى الواقعية السياسيّة ومدفوعةً برغبةٍ أوّليةٍ لتصعيد التعبير عن الذات السورية. فبعد اعتماده على رأس المال الرمزي المُستمَدّ من الدين والجهاد، حين يُخاطبُ قاعدةَ دعمٍ محدّدة، أخذ يسعى إلى رأس مالٍ رمزيٍّ جديدٍ من خلال تقديم نفسِهِ زعيماً وطنياً قادراً على التواصل مع الفئاتِ المُختلفةِ من الشعبِ السوري المُطالبةِ بإسقاط النظام، ومع القوى الدولية في الوقت نفسه، فأنشأت هيئةُ تحرير الشام (تحت قيادته) حكومةَ الإنقاذ السورية، وبدأت في تقديم خدماتٍ أساسيةٍ للمُجتمع في إدلب، محاولةً تحويل مناطقِ نفوذها نموذجاً للإدارة المحلّية الناجحة. ورُغم هذه الخطوات، استمرّت “الهيئةُ” تُواجهُ تحدّياتٍ كُبرى في إقناع المجتمع الدولي بصدقيّة هذا التحوّل، خصوصاً مع استمرار الاتهامات بانتهاكات حقوق الإنسان وقمع المعارضة من جهة، والصّعوباتُ التي تُواجهها من الحرس القديم (الرافضِ للتغيير) في صفوف الهيئة من جهةٍ أُخرى، فالقادةُ الذين يقودون تحوّلاً جذرياً غالباً ما يُواجهون تحدّياً مُزدوجاً؛ إقناعَ مُؤيّديهم الأصليّين بالتّحول، وكسبَ قَبول القوى الخارجية. في حالةِ الجولاني، يبدو أن تحوّلهُ (حتّى تلك اللحظة) ما يزال قيد الاختبار.
يوم 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، وفوراً لحظةَ إعلان وقف إطلاق النار في لبنان، أعلنَت فصائلُ المعارضة السوريّة بقيادة هيئة تحرير الشام عمليةً عسكريةً تحت اسم “ردع العدوان”، بـأهدافٍ تمثّلت بوقف اعتداءات قوات النظام والطيران الروسي على منطقة خَفضِ التّصعيد في إدلب، وما لبثت (بعد يومين فقط) أن دخلت قواتُ المعارضة مدينةَ حلب. تعاقبَت الأحداثُ بسرعةٍ مُذهلةٍ، ولمّا يستفق السوريون من فرحة تحرير حلب، حتّى كانت المدنُ المحرّرةُ تتراصفُ بعضها بجانب بعض. في غفلةٍ عن اليأس، تكاملَت خريطةُ الترابِ السوريّ وهرب الأسد. لقد كانت أجنحةُ التاريخ ترفرفُ فوق السماء السورية.
تُجسّد الصورة الثالثةُ لأحمد الشرع أمام الجامع الأمويّ أحدَ أبرز تجلّيات المشهد السوريّ المعاصر، اللحظة السوريّة الأكثر أهمّية بعد الاستقلال، وربّما في التاريخ السوريّ الحديث. بعد 14 سنة من الثورة، ومئات آلاف الشهداء، و14 مليون لاجئٍ ومُهجّر، استطاع السوريّون إسقاطَ النظام الذي استبدّ بسورية 50 عاماً. ساعات معدودات بعد إعلان سقوط النظام، كان أحمد الشرع، القائد العام لإدارة العمليات العسكرية، حاضراً في عاصمته دمشق، يستعدّ لدخول الجامع الأمويّ بذراعَين مفتوحتَين عن ثقةٍ بامتلاك المكان، وبلباس عسكري يحاكي (للمفارقة) لباس الرئيس الأوكراني. الحشودُ المحيطةُ به تعكس نوعاً من “القبول الحذر”، يوحي حضورها بأنّ الشرع نجح في خلق مساحةٍ جديدةٍ له بين المكوّنات السورية، لقد مثّلت هذه اللحظة بين الحشود التي تحلّقت حوله إشارةً مُزدوجةً، خطابيةً تسعى إلى إيجاد اتصالٍ رمزيّ مباشرٍ مع الجمهور، وسياسيةً تدلّ على زعامةٍ ميدانية ترفض الانكفاء وتصرّ على ممارسةِ دورٍ قياديّ ٍملموسٍ، لقد نجحَ هذا الشابّ الذي بدأ حياته منتظماً في أطرٍ جهادية تُعاكس التاريخ السياسي للعالم، بكسر الحواجز المرسومة أمام قَبوله شخصيةً شرعيةً مقبولةً، وممثّلاً طموحات السوريين.
ينجح الجولاني، باستخدام اسمه الحقيقيّ (أحمد الشرع)، بتبنّي هُويَّةٍ أكثر توافقاً مع ما تحتاج إليه المكوّنات السورية المتنوّعة، ومع ما يريده المجتمع الدولي، يتّضح هذا في اعتماد خطابٍ عن حقوق الأقلّيات، ومحاولة كسب شرعيةٍ من خلال التركيز في قضايا حياتية هي في طبيعتها ما يهمّ المواطن السوري، ولا شيء غيرها، وهو تنازلٌ عن الخطاب الجهادي التقليدي، الذي تورّط فيه في بداية حياته، لصالح لغةٍ أقرب إلى ما يسمّيه يورغن هابرماس “العقلانية التواصلية”، إذ يكون الهدف هو بناء جسور مع الآخرين من خلال لغة سياسية وعملية. وبالتأكيد لغة أكثر وطنية. لكنّه لا يزال تحت مجهر التساؤل الشعبي المشروع. هل هذا التحوّل أصيلٌ أم مُجرَّد قناعٍ سياسيٍّ عابرٍ؟
الحروبُ طويلةُ الأمد تعيد تشكيل الأفراد والجماعات بطرقٍ غير متوقّعةٍ، فيُعاد تفكيك روايات الهُويَّة الصلبة وتشكيلها
من المفيد الإشارة إلى أن هذا التحوّل ليس فريداً في تجارب التحرّر لدى الشعوب، حيث يمكن مُقاربة تحوّل الشرع بتشبيهها بتحوّلات قادةٍ آخرين، مثل جيري آدامز في أيرلندا الشمالية، الذي انتقل من قيادة حركةٍ مسلّحةٍ إلى زعيم سياسي يسعى إلى السلام، ونيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا. وعلى اختلاف ظروف التجربة، ورغم الفوارق في هذه السياقات، تشكّل كلّها أمثلةً على كيفية انتقال القادة من العمل المسلّح إلى البراغماتية السياسية. وليس من شيءٍ مُهمٍّ هنا سوى التأكيد أنّ النجاح في هذه التجارب كلّها كان مشروطاً بامتلاك الدعم الشعبي، الذي حافظ عليه كلٌّ من مانديلا وجيري آدامز حتّى النهاية.
صورةٌ أخيرةٌ كان لا بدّ منها لاكتمال المشهد، يظهر “القائدُ العامُّ” في الجمعة الأولى بعد التحرّر، يدعو السوريين إلى الخروج احتفالاً بالنصر، بلباسٍ مدنيٍّ المرّة هذه، وفي محاولةٍ للسيطرة على ملامح الفرح الطفولي الذي ظهر في وجهه، وبدعوة السوريين إلى العمل لبناء دولتهم، هذه الدولة التي ينبغي لها أن تفتح الباب مكانة المستقبل من الزمن، بعدما ظنّ الجميع أن لا مُستقبل.
المصدر: العربي الجديد
قراءة وسيرة أحمد الشرع “ابو محمد الجولاني” وعائلته ووالده وكيف إنه إنتقل من دراسة الطب للإلتحاق مع المجاهدين بعد 11 سبتمبر/ايلول ، احمد الشرع براغماتي تنقل منذ خروجه من دمشق 2004 الى 2024 عشرين عاماً من الإندفاع الجهادي مع القاعدة الى قائد دولة براغماتي غير توجهاته ولباسه ومنظره وحتى وجهة نظره للأمور، فهل تغيير الحية جلدها يمكن أن يغير الآخرين تصنيفها؟.