يرى بعض المتلوّنين ممن أوتي الحكمة الأخطبوطية أنّ الانحياز إلى الثورة السوريّة، أي إلى ما يفرضه الاعتقاد الراسخ بالحقّ من انتصارٍ له والدفاع عنه والتضحية من أجله، هو تطرّف وغلوّ، وأنّ الإنسان بما جبل عليه من الضعف، ومن محدوديّة في قدرات حواسه، ومن قصور في مدركاته لا يملك أن يقطع برايٍ أو أن يتخذ موقفاً أو أن يصل إلى قرار، ويخلص إلى مقولاتٍ رائجة ظاهرها أنه مع العدل وأنه يبغي خير الناس وصلاح المجتمع فيردد أدعية من مثل: الله ينصر الحقّ، الله يطفئها بنوره، الله على الظالم..، وحين تواجهه بالسؤال عمن هو المظلوم ومن هو الظالم يجيبك: الله أعلم. وقد يدعو لك بالهداية والرشاد.
واقع الحال أنّ هذا الكائن البيولوجيّ اللزج يعلم تمام العلم حقيقة الحاكم الظالم. إنّه يعي بوضوح الأسباب التي قادت المحكوم بالحديد والنار للثورة على الطاغية، وأن مطالبه المشروعة بالكرامة والعدالة والحرية نابعة من معاناة مديدة، ومن يأس من الإصلاح وانسداد الأفق أمام التغيير، كما أنّه يدرك تماماً طبيعة الطاغية ومدى جبروته وفساده وإجرامه، وأساليبه القذرة في العسف والبطش بمناوئيه، بل إنّه يعلم تفاصيل كثيرة عن الأهوال والفظائع المرتكبة بحكم علاقته المركّبة مع أجهزة القمع والعنف، فقد يكون ضحية في زمن مضى أو قريباً لمن طالته ارتكابات الظالم، وربما وسيطاً بين المجرم والضحيّة، وقد يكون مخبراً أو “فاعل خير” متطوّعاً أو بأجر.
نعم هذا الكائن المتفهمن يعلم الحقيقة ويميز بين ما هو خير وما هو شرّ لكنّه بمقتضى مصالحه الذاتية الضيقة لا يملك القدرة على إبداء رأي في أيّهما، ولا يجد مبرّراً لتوصيف ما يجري، فهو يرى في عقله ذكاء استثنائياً، بل ويضع ذاته المتورمة في مقامٍ يعلو على الظالم والمظلوم معاً، وأنّه في موقفه المائع يمارس خبثاً ثعلبياً يتوخى من خلاله أن يكون بمنأى عن النزاع، وفي حلٍّ من المواجهة التي تتطلب بذل الثمن، والتضحية بما قد يتجاوز المتع والشهوات الدنيا إلى المال والنفس، بل وأكثر من ذلك حيث يسعى إلى الاستثمار على المآسي والارتزاق منها، وأن يحفظ لشخصه مكاناً مرموقاً ومتميّزاً على رقعة المنتصر.
لن يضير هذا المخلوق العاري انكشافه أمام الضحيّة وأمام المجرم، فهو أعلم بجبنه وخسّة تفكيره، ويدرك أنّ الجميع خبيرٌ بوضاعته وانتهازيته، وقد تصل الوقاحة به إلى التنقل بين جبهتي الصراع وتغذية أسباب استمراره، وربما يسعى للعب دور الوسيط والسمسار إن سنحت له الفرصة.
ليست مشكلة لديه نتائج الصراع وهويّة المهزوم فهو يعي بنية الطاغية المتوحشة وخلوّها من المبادئ والقيم، ويدرك الطبيعة الفاضلة للثائر على الطغيان والجوهر الأخلاقيّ والقيميّ للثورة، فإذا لم تكن مآلات الجولة للحق فإنّه سيتكيّف مع واقع تفرض فيه مصالح المستبدّ غضّ النظر، وإن مؤقتاً، عن موقفه الانتهازيّ وسيكون أداة طيعة بيده وربما موظفاً لديه لاستعادة السلطة والهيبة، ولإعادة تمكينه من استعادة قوته وبسط هيمنته من جديد، أما إذا انتصر الحق فإنّ قيم العفو والتسامح والغفران لدى المظلوم ستكون كفيلة لهذا المتشاطر لتمكينه من دخول بيته آمناً.
ليس ذكاءً ثعلبيّاً ما يمارسه هذا الكائن الحربائيّ المتلوّن، كما أنّ الذبذبة والتأرجح بين النقائض المحتربة ليس حياداً ولا يمكن تسويغه أو حشره في باب الصلاح والتقوى أو الجنوح إلى السلم، إنما مطلق الغباء هو في الانحياز للدناءة والذلّ، وفي تعزيز ودعم قوى الإثم والعدوان. ستنتصر ثورة الطهر والجمال السوريّة العظيمة ويتبدّد ليل الضعفاء والمحرومين، لن تكون ثمّة رحمة بمن أوغل بعقله وحواسه في مستنقع الدماء، وأطال في عمر عصابة الطغيان كي يشبع غرائزه البهيمية، ويضمن النجاة لذاته المتقوقعة اللزجة، لقد نسي هذا الرخويّ المتثعلب أنّ الدخول إلى بيت الوطن ليس آمناً للمستثمرين على دماء الأبرياء وبائعي الضمير، وأنّ مكان البزّاق الطبيعيّ هو المزاريب ومصارف المياه العطنة.
المصدر: اشراق