بدأ الترنّم بشعار ( الديمقراطية) يتنامى منذ سبعينيات القرن الماضي، لدى معتنقي ثلاث قطّاعات إيديولوجية في سورية، لعلّها هي القطّاعات الأساسية الحاضنة لمجمل العاملين في الحقل السياسي والثقافي، واعني تحديداً ( القوميين والشيوعيين والإسلاميين)، مع فارق نسبي في الترنّم فيما بين الأطراف الثلاثة، علماً أن مفهوم ( الديمقراطية) بمعطياته الراهنة، لم يكن يجسّد أطروحة مركزية لدى تلك الأنساق الإيديولوجية برمتها، وكذلك لم يكن مُستَنبتاً أصيلاً أفرعَ من تصوّراتها وأفكارها، وإنما هو وافدٌ جديد بدأ يتسرّب إلى خطابها وأدبياتها السياسية، دون أن يمتدّ إلى متون عقائدها أو قناعاتها الفكرية، وكان يمكن لهذا الوافد أن يكون برعماً قابلاً للتفتّح والنمو لو أنه وجد المناخ المناسب والتربة الخصبة لازدهاره، إلّا أنه ظل مخنوقاً في حيّزٍ ضيّقٍ، كما ظلّ التعاطي معه محصوراً في الإطار البراغماتي حيناً، والتزييني حيناً آخر، وربما استخدمه البعض كوسيلة لسدّ الذرائع حين الحاجة فقط، وفي جميع الحالات بقي مفهوم ( الديمقراطية) مبتوراً عن سياقه التاريخي والثقافي والاجتماعي، وأُريدَ له أن يتحوّل إلى أيقونة يمكن التحكّم بظهورها واختفائها، وفقاً لحاجة البيانات السياسية ، أو الخطابات المنبرية، أو السجالات البينية بين الأطراف والجماعات السياسية.
بالطبع فإن نظام الأسد ومن والاه، ودار في فلكه من الأحزاب والجماعات، فهؤلاء جميعهم ليسوا معنيين بالكلام السابق، ليس لأنهم لم يترنّموا – كسواهم – بشعار الديمقراطية، بل لأن سلوكهم الفعلي المنحاز بالمطلق لنهج التوحش والإبادة يجعل أي حديث عن الديمقراطية أمراً شبيهاً بالنكتة. ولكن المعني – دون أدنى ريب – هي الأحزاب والجماعات والشخصيات، سواءٌ من انحدر منها من الأحزاب التقليدية للمعارضة، أو من الكيانات التي استحدثت بعد الثورة، فمعظم هؤلاء أتاحت لهم ثورة السوريين أن يلتقوا في كياناتها الرسمية ( المجلس الوطني – الائتلاف )، تلك الكيانات التي من المفترض أن تمثّل ثورة شعب انتفض ضدّ الاستبداد، وطالب بالتداول السلمي للسلطة، ولكن للأمانة التامّة، فإن معظم روّاد هذه الكيانات( إسلاميين وقوميين ويساريين) ظلّوا محافظين على مجمل خلافاتهم الإيديولوجية والسياسية إنْ وُجدت، ولكن أمراً واحداً قد جمعهم ووحّد مسعاهم، وهو التجذّر بصلابة في هذه الكيانات، وعدم مغادرتها مهما كان الثمن، وللأمانة أيضاً، فإن ثمة مادة في النظام الداخلي للائتلاف تؤكد على عدم وجوب تغيير أو تبديل أعضاء الائتلاف، فهل لهذه المادة أي علاقة استنساخ بالمادة الثامنة من الدستور السوري، التي تقر بقيادة حزب البعث للدولة والمجتمع؟ وهل تبادل المواقع بين ( بوتين وميديفيدف) هو النموذج الأوحد للاقتداء فيما يخص تبادل الطرابيش بين رئيس الائتلاف ورئيس هيئة التفاوض؟
ولئن اتاحت الثورة للمعارضين السوريين أن يتنادوا في سباق محموم لتمثيلها دولياً عبر مؤسسات وكيانات، إلّا أن هذه الثورة قد اتاحت – من جهة أخرى – وبفضل كشوفاتها المعرفية الهائلة، مقدار الزيف المترسّب في الوعي، والاستعداد الكبير للتنصّل من القيم – سواء كانت الديمقراطية أو سواها – حين تقتضي المصالح الشخصية ذلك، كما كشفت الثورة – أيضاً – وبفضل مخزونها القيمي، أن الحاجة إلى الديمقراطية ليست حاجة سياسية فحسب، بل هي حاجة أخلاقية بالدرجة الأولى، وبدّدت الفهم الخاطئ الذي يختزل مفهوم الديمقراطية بصندوق الاقتراع فحسب، مؤكّدةً أن الإلتزام الحق بأسس التفكير الديمقراطي إنما يعني الإلتزام باحترام كافة الحقوق والحريات كاملةً غير منقوصة.
ما من شك في أن يثير ما سبق من كلام حفيظة الكثيرين، سواء أكانت الإثارة بحسن نيّة او غير ذلك، وسيقول الكثيرون إن نقد أسس تفكير قوى المعارضة وسلوكها وكياناتها الرسمية سوف يسدي خدمة مجانية لخصوم الثورة، وفي مقدمتهم نظام الأسد، إذ لا فائدة ترجى من بيان العيوب وتصيّد الأخطاء وحشد الانتقادات ، بينما المعركة مع النظام ما تزال قائمة، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وربما يقال اكثر من ذلك، بل ربما أيضاً من يصنّف هذا الحديث على أنه مجافٍ لتوجهات الثورة.
لقد سكت السوريون، أو أُسكِتوا ، طيلة ما يقارب نصف قرن، وحُرموا من كافة حقوقهم في التعبير والاعتقاد وممارسة السياسة، بل وانتُهكت كراماتهم وأُرغِموا على الانصياع والامتثال للحاكم مهما كانت أفعاله جائرة ومشينة بحقهم، ولقد سعى نظام الأسد منذ انقضاضه على السلطة عام 1970 إلى إذلال السوريين وترويضهم على قبول المهانة، من خلال سياسة الترويع والخوف التي لم تعد حالة عرضية، بل منهجاً مُحكماً، بل إن هذا النهج القمعي الدموي هو الذي مكّن آل الأسد من الاستمرار في السلطة حتى هذه اللحظة، وقد كان المسوّغ الرئيس الذي اعتمده النظام لممارساته بإسكات الآخرين هو أنه في حالة مواجهة مع إسرائيل وأمريكا والامبريالية، وأن شغله الشاغل هو التصدّي للمشاريع التي تهدف للنيل من الأمة العربية، وان معركته الكبرى تلك هي التي ينبغي أن تستقطب جميع الطاقات، وفي موازاة ذلك، فإن أي مطلب شعبي فيما يخص حقوق المواطنين السياسية والاجتماعية، أو أي اعتراض على نهج الحاكم ما هو إلّا انحياز إلى جانب العدو، بل يستحق صاحبه صفة العمالة، وفقاً لتوجهات السلطة الحاكمة، وتأسيساً على هذا المنحى، باتت مناهضة إسرائيل والصهيونية مشروطةً – حكماً – بالإمعان في إذلال المواطنين وانتهاك حقوقهم وسحق إنسانيتهم.
خطاب ( الممانعة) الخادع استطاع مصادرة الوعي لدى الكثير من السوريين طيلة عقود من الزمن، وما يزال هذا الخطاب مستمراً في إعطاب التفكير من خلال استنساخه من جديد، وتوظيفه بهدف تبرير النهج الخاطئ الذي ما تزال معظم قوى المعارضة تسير عليه.
ثمة معادلة ضدّية، تحمل في طيّاتها مفارقات كارثية،( تحقيق تطلعات وأهداف المواطنين، يجب ان يتقوّم بالضرورة على حوامل تهين المواطنين وتهدر إنسانيتهم)، لا شك أنها سمات المستبدين وطرائق تفكيرهم، تختلف وجوههم ومواقعهم، ولكنهم يحملون في عقولهم ونفوسهم اللوثة ذاتها.
لقد انقضى من عمر الثورة السورية ما يقارب سنواتٍ عشراً، وهي مدّة ليست بالقليلة، ولا يمكن اعتبارها فترة تجريبية بالمطلق، إذ قضى خلالها أكثر من مليوني سوري، وأضعافهم من المصابين والمهجرين ، ومئات الآلاف من المعتقلين، وباتت الجغرافية السورية نهباً لأكثر من طرف دولي وإقليمي، وما يزال الأفق غائماً جداً، ألا تستحق هذه الفواجع كلها وقفة جريئة أمام الذات، ومراجعات نقدية معمَّقة، بغية تنظيف ما تعفّن واهترأ في القاع؟.
المصدر: تلفزيون سوريا