عشرون عاما كاملة مرت على رحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في 11 تشرين الثاني 2004، عشرون عاما تغيّرت فيها أشياء كثيرة، أغلبها نحو الأسوأ للأسف الشديد.
في أعقاب رحيله الدرامي مسموما بكاه بحرقة كل أبناء شعبه، بكوا الرجل الذي اختلفوا معه ولكن لم يختلفوا عليه، بكاه المناصرون له والمعارضون على حد سواء. ولنتذكّر أنه بمجرد رحيله، شرعت الدوائر الأمريكية المختلفة في الترويج بأن غياب «العقبة» سيفتح آفاقا أرحب في طريق التسوية مع الإسرائيليين، لا سيما حين صوّر خليفته محمود عبّاس على أنه «أكثر مرونة واعتدالا».
ظهر من الفلسطينيين من بدا ميّالا إلى تصديق مثل هذا الحديث لكن لم تمض سوى سنوات قليلة حتى تجلّى زيفه خاصة مع عودة بنيامين نتنياهو من جديد إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية محمّلا بأساليب التسويف والمراوغة والكذب التي برع فيها أكثر بكثير ممن سبقوه.
كلمة «العقبة» هذه عادت من جديد لمجرّد التضليل بعد أن تمكّنت قوات الاحتلال من قتل يحيى السنوار حيث تم الترويج سريعا إلى أن غياب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» كفيل بإنهاء حرب الإبادة الجماعية في غزة وإنجاز صفقة لتبادل الأسرى والمحتجزين مع أن القضية لم تكن يوما في هذا القائد الفلسطيني أو ذاك وإنما في بقاء الاحتلال ومساعي تأبيده.
السنوار الذي قال في إحدى كلماته «نم قرير العين يا أبا عمّار» واعدا بأن النضال الفلسطيني من أجل التحرر والاستقلال لن يتوقف بعد رحيله، مضى هو الآخر إلى ربه ضمن قافلة من الشهداء على هذا الطريق، من بين آخرهم إسماعيل هنية وصلاح العاروري لكن أمرين أساسيين يجعلان من رحيل «الختيار» كما كان يطلق على ياسر عرفات، أقسى وأمر.
الأول أنه رغم مرور عشرين عاما على رحيل عرفات ما زالت ظروف اغتياله غير معروفة بالكامل، بل ويلفّها الكثير من الغموض والتكتّم، وكأن لجنة التحقيق التي أنشأتها السلطة الفلسطينية لا تريد أن تفصح عما توصّلت إليه بالكامل، أو أنها أسرّت به فقط إلى دائرة مغلقة ما زالت متكتمة. ما زال المجرم المباشر الذي دس له السم بطريقة أو بأخرى حرا طليقا رغم كل هذه السنوات. وإذا كان الأمر كذلك فمن المعيب جدا أن تغيّب الحقيقة بسبب حسابات سياسية أو مماحكات تظهر وتختفي.
الثاني أن الساحة الفلسطينية افتقدت طوال هذين العقدين الرمز الذي كان يجسّد نضال شعب كامل من أجل الحرية، منتقلا بملفها من عاصمة إلى أخرى دون كلل بكوفيته التي يرتبها على شكل خريطة فلسطين، متحدثا في كل المنابر وإلى كل وسائل الإعلام العربية والدولية. لم تفتقد الساحة مثل هذا الرمز الملهم كافتقادها له منذ العدوان الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزة منذ أكثر من عام.
كان مؤلما أن تشاهد رئيس الحكومة الإسرائيلية وكافة طاقمه المتطرف يصول ويجول عبر مؤتمرات صحافية لا تهدأ، وخطب وتصريحات هنا وهناك، بينما الساحة الفلسطينية تكاد تكون ساكنة بالكامل إلا من تصريحات لقادة «حماس» مع أن ما يجري في غزة من إبادة جماعية وما يجري كذلك في الضفة الغربية من اقتحامات واعتداءات يومية مع عربدة فظيعة للمستوطنين هناك، ناهيك عما يتعرّض له المسجد الأقصى، يخص كامل الشعب الفلسطيني بلا استثناء ولا يمكن تصنيفه على أنه شأن هذا الفصيل أو ذاك.
كان مؤلما فعلا أن ترى قادة الاحتلال يسعون بلا كلل لتجميل جرائمهم ولا ترى في المقابل رئيسا فلسطينيا يتحدث إلى شعبه المقهور وإلى كل العرب والعالم. كان ذلك واجبا مطلوبا وبإلحاح حتى وإن كان الرئيس محمود عباس غير موافق على ما جرى في السابع من أكتوبر العام الماضي، وعلى نهج المقاومة المسلحة ككل، ولكن ذلك ما كان يجب أن يخفي ضرورة وواجب التصرف كرئيس لكل الفلسطينيين يتألم لآلامهم ويبكي لأحزانهم ويرفع شخصيا صوته عاليا للتنديد بوحشية الاحتلال وشريكه الأمريكي وتواطؤ الدول الغربية وللإعراب كذلك عن التقدير لكل من وقف مع الفلسطينيين في مأساتهم هذه.
صحيح أن بيانات كثيرة صدرت عن الرئاسة وعن بعض المسؤولين في السلطة ومنظمة التحرير في الداخل والخارج لكنها لم تكن بقوة ووتيرة ما يفعله الإسرائيليون وكذلك الأمريكيون الذين كانوا يخرجون إلى الإعلام يوميا تقريبا في حين كان الفلسطينيون أولى بذلك لفضح الجرائم الفظيعة التي ترتكب بحقهم.
عشرون عاما مضت على رحيل قائد كفاح وطني، وصموه بالإرهاب ثم منحوه جائزة نوبل للسلام ثم أعادوه إلى خانة الإرهاب من جديد، عشرون عاما لم تعد فيها «فتح» الحركة التي نعرفها، ولا رموزها من الطينة النضالية التي خاضت ملاحم بطولية لا تنسى، كما لم تعد «منظمة التحرير الفلسطينية» العنوان الوهّاج الذي عرفناه لعقود، رغم بعض المكاسب الأخيرة الهامة في الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، لكن ما هو مطلوب أكثر من ذلك بكثير ويتعلق بالأساس بترتيب البيت الفلسطيني الداخلي لسد الأبواب أمام المتربّصين من القريب والبعيد.
كاتب تونسي
المصدر: القدس العربي