بغزو لبنان، يواجه نتنياهو عدوًا أقوى بكثير من حماس. وكما كتب اللواء المتقاعد اسحق بريك في صحيفة “هآرتس”، فإن “الجيش الإسرائيلي، الذي فشل في تدمير “حماس”، لن يكون بالتأكيد قادرًا على تدمير “حزب الله”، الذي هو أقوى بمئات المرات من “حماس””. ويوضح بريك أن القوات البرية الإسرائيلية تم تخفيضها بنسبة 66 في المائة في السنوات العشرين الماضية، مما يعني أن إسرائيل “ليس لديها ما يكفي من القوات للبقاء لفترة طويلة من الزمن في أي منطقة تحتلها، وليس لديها قوات لإراحة أولئك الذين يقاتلون”.
* * *
على مدى عقود، وصف بنيامين نتنياهو نفسه بأنه “السيد أمن”، الزعيم الذي يمكن للإسرائيليين الاعتماد عليه للحفاظ على إبقائهم آمنين. ثم جاء هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، الذي أسفر عن مقتل 1.200 شخص، وأخذ ما لا يقل عن 230 رهينة، والذي حطم صورة رئيس الوزراء كحامٍ لإسرائيل. ومنذ ذلك الحين، كان رئيس الوزراء يحاول يائسا استرداد سمعته المفقودة. وتدين ضراوة الانتقام الإسرائيلي في غزة إلى ذلك بقدر ما تدين إلى الصدمة والرعب اللذين اجتاحا البلاد في أعقاب الهجوم في ذلك اليوم.
الآن، بعد مرور عام، ما يزال نتنياهو مصممًا على مواصلة حربه في غزة بأي ثمن –ليس على حساب سكان غزة الذين قتل منهم أكثر من 40 ألف شخص وتسبب بنزوح 1.9 مليون آخرين (90 في المائة من السكان) فحسب، ولكن على حساب لرهائن الإسرائيليين أيضًا. الآن، أصبح مستقبله ونتائج الحرب صنوين لا ينفصلان.
وحتى قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)، كان نتنياهو شخصية استقطابية إلى حد كبير. وكان الإسرائيليون الليبراليون قد نزلوا إلى الشوارع بأعداد كبيرة للاحتجاج على سياساته، ونددوا به باعتباره يشكل تهديدًا للديمقراطية وسيادة القانون، في حين اعتبره أولئك الذين ينتمون إلى اليمين زعيمًا منقطع النظير، بل ومنقذًا ومخلِّصًا. وقد تصلبت هذه المواقف المتفارقة تجاهه فحسب. تعتقد عائلات الرهائن المتبقين في غزة أن التوصل إلى صفقة لوقف إطلاق النار فقط هو الذي سيعيد أحباءهم إلى بيوتهم، وأن نتنياهو يرفض الموافقة على وقف إطلاق النار لأنه مهووس بفكرة تدمير “حماس” بالكامل. وهناك إسرائيليون آخرون مقتنعون بأن نتنياهو عازم على إطالة أمد الحرب في غزة من أجل البقاء في السلطة لتجنب مواجهة تهم الفساد المعلّقة ضده. بل إن عددًا متزايدًا من الإسرائيليين ينظرون إليه على أنه تهديد لسيادة القانون في إسرائيل. ويحمل العديد من الإسرائيليين هذه الآراء الثلاثة معًا. في مقابلة أجريت معه في أواخر شهر تموز (يوليو)، ذهب رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، إيهود أولمرت، إلى حد التحذير من أن البلد يمكن أن ينزلق إلى حرب أهلية –وهي وجهة نظر يشاركه فيها ما يقرب من نصف المستطلعة آراؤهم في استطلاع أجري في آب (أغسطس).
على الرغم من ذلك، أثبت تعهد نتنياهو بتدمير “حماس” أنه مجرد وهم. وخلق رفضه التخلي عنه شقاقًا بينه هو والأعضاء الأكثر تشددًا في حكومته –وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، اللذين يقودان الأحزاب الدينية اليمينية المتطرفة– من جهة، وكبار ضباط الجيش الإسرائيلي ومسؤولي المخابرات الذين يصرون على أنه لا يمكن القضاء على “حماس”، من جهة أخرى.
ولكن، ما الذي يعنيه في الممارسة العملية، تدمير “حماس”؟ قد يؤدي التفوق الساحق للجيش الإسرائيلي في الجنود والتكنولوجيا العسكرية والقوة النارية إلى تدمير قوتها القتالية، “كتائب عز الدين القسام”، والقضاء على كبار قادتها. (من المرجح أن يكون قائد الكتائب، محمد ضيف، قد قتل بالفعل). وحتى لو أن “كتائب القسام” لم تختف، فستكون قد أصيبت بضرر بليغ. لكنّ تدمير “حماس” بالكامل هو أمر مستحيل. إنها حركة سياسية ذات أيديولوجية مميزة، تشمل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وإنهاء السيطرة المفروضة على قطاع غزة من خلال الحصار الصارم. وطالما استمر كلاهما، ستكون لدى الحركة قضية يمكن أن تحشد لها الدعم. وسوف يستمر الآلاف من الشباب التواقين إلى الانتقام بعد أن قتلت آلة الحرب الإسرائيلية أمهاتهم وآباءهم وإخوتهم في الانضمام إلى الحركة، وسوف يغذي الحصار الإسرائيلي الخانق مشاعر السخط.
بغض النظر عن مستقبل “حماس”، عندما تنتهي الحرب في نهاية المطاف، سيتعين على إسرائيل أن تضع ترتيبات لحكم غزة. لكنّ أيًا من الخيارات المتاحة غير قابل للتطبيق. فقد استبعد نتنياهو تشكيل حكومة ائتلافية تضم السلطة الفلسطينية و”حماس” -أو حتى حكومة تديرها السلطة الفلسطينية وحدها. كما أن خيار حكومة يديرها وجهاء غزة شبه مستحيل أيضًا. وسوف يُدان أي شخص يتقدم لهذه الوظيفة باعتباره متعاونًا مع الاحتلال: كلما كان هذا الشخص أكثر قبولاً لإسرائيل، أصبح أقل أهلية لثقة السكان. وبدلاً من ذلك كله، يمكن لإسرائيل أن تدير غزة من خلال احتلال عسكري، لكنّ هذا سيعيد عاجلاً أم آجلاً الدورة المألوفة من القمع والمقاومة.
حتى تكون الأمور أكثر تعقيدًا، تشن إسرائيل حربًا من نوع ما على جبهة ثانية، الضفة الغربية، حيث يتزايد منسوب التوتر والعنف. وقد تسارعت وتيرة مصادرة الأراضي هناك بموافقة الدولة، مع إصدار أكبر تفويض منفرد بالمصادرة منذ ثلاثة عقود في تموز (يوليو). كما تضاعف عدد الوحدات السكنية الاستيطانية تقريبًا خلال السنوات الخمس الماضية وفقًا للاتحاد الأوروبي، من دون أن يشمل ذلك ما يقرب من 200 “بؤرة استيطانية” حصلت الكثير منها في نهاية المطاف على وضع قانوني على الرغم من كونها غير قانونية بموجب القانون الإسرائيلي نفسه. وفي الوقت نفسه، تصاعدت هجمات المستوطنين على الفلسطينيين، إلى جانب تدمير بساتين زيتونهم وحدائقهم وحقولهم؛ وقتل وسرقة الأغنام والماشية؛ وهدم المدارس وتخريبها؛ والاستيلاء على مصادر المياه، بمساعدة جيش الدفاع الإسرائيلي في بعض الأحيان.
أما الأسوأ من ذلك كله، كما ذكرت ”مجلة 972+”، فهو أن قوات الأمن والمستوطنين قتلوا ما يقرب من 700 فلسطيني في الضفة الغربية منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر). وقد أشادت الأحزاب اليمينية المتطرفة في إسرائيل بهذه الهجمات، ونددت بالانتقادات الأجنبية ووصفتها بأنها حملات تشويه -حتى أن بن غفير خفف قوانين ملكية الأسلحة للمستوطنين: خلال الشهرين الأولين من هجوم “حماس”، تم تقديم 250.000 طلب لامتلاك سلاح ناري، وهو عدد أكثر من المتقدمين خلال السنوات الـ25 الماضية مجتمعة. وفي الواقع، أدت موافقة الحكومة على إقامة وتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية إلى تدمير الاحتمالات القاتمة مسبقًا لحل الدولتين.
من غير المفاجئ، والحالة هذه، أن يكون دعم المقاومة المسلحة بين الفلسطينيين قد ازداد. وقد رسخت “حركة الجهاد الإسلامي” و”كتائب شهداء الأقصى”، وإلى حد أقل “حماس”، جذورًا عميقة لنفسها في الأراضي الفلسطينية. وارتفع منسوب العنف العام في المنطقة –الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي، والمستوطنون، والجماعات الفلسطينية المسلحة– بنسبة 50 في المائة، حتى في الأشهر الاثني عشر التي سبقت حرب غزة. وتشير الاتجاهات الحالية إلى احتمال حقيقي جدًا لاندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة. وحذر ديفيد شولمان، الباحث في الجامعة العبرية في القدس، مؤخرًا في مجلة “نيويورك ريفيو أوف بوكس” من أن تصرفات المستوطنين الإسرائيليين إذا تُركت من دون رادع، “ستؤدي إلى سيطرة “حماس” و”الجهاد الإسلامي” على الضفة الغربية”.
ومما يزيد من تأجيج الوضع أن إسرائيل أطقت الآن غزوًا بريًا في جنوب لبنان، وفتحت بذلك جبهة ثالثة ضد الحزب السياسي الشيعي اللبناني والقوة شبه العسكرية، “حزب الله”. ويجيء ذلك تتويجًا لما يقرب من عام من الأعمال العدائية: منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، كان “حزب الله” يطلق الصواريخ والطائرات من دون طيار على شمال إسرائيل، في حين ترد إسرائيل بضربات جوية على معاقل الحزب في جنوب لبنان. وفي حين تعهد “حزب الله” بمواصلة هجماته طالما استمرت حرب غزة، ظل نتنياهو عازمًا على تمكين عودة النازحين من شمال إسرائيل إلى ديارهم، ويبدو أنه سيتحمل مخاطر كبيرة لتحقيق ذلك.
ولكن، من خلال غزو لبنان يواجه نتنياهو الآن عدوًا أقوى بكثير من “حماس”. وكما كتب اللواء المتقاعد، إسحق بريك، في صحيفة “هآرتس”، فإن “الجيش الإسرائيلي، الذي فشل في تدمير “حماس”، لن يكون بالتأكيد قادرًا على تدمير “حزب الله”، الذي هو أقوى بمئات المرات من “حماس””. ويوضح بريك أنه تم تخفيض القوات البرية الإسرائيلية بنسبة 66 في المائة في السنوات العشرين الماضية، مما يعني أن إسرائيل “ليس لديها ما يكفي من القوات للبقاء لفترة طويلة من الزمن في أي منطقة تحتلها، وليس لديها قوات لإراحة أولئك الذين يقاتلون”.
ثم هناك السؤال حول كيف يمكن أن ترد إسرائيل على وابل الصواريخ الإيرانية التي أطلقت عليها مؤخرًا. وما إذا كانت الولايات المتحدة ستقتصر على مساعدة إسرائيل في إسقاط الصواريخ الإيرانية، كما فعلت في نيسان (أبريل)، أو أنها ستقرر ضرب إيران مباشرة. ويمكن أن تذهب إيران في الرد على ذلك إلى حد إغلاق مضيق هرمز، وهي خطوة يمكن أن تتردد آثارها المتتالية عبر شبكات الاقتصاد العالمي.**
بعد مرور عام على 7 تشرين الأول (أكتوبر)، فإن الجمع بين العنف المتزايد في الضفة الغربية، والحرب الإسرائيلية في غزة والغزو البري لجنوب لبنان، ومواجهة إيران التي تشعر بالضغط لتعزيز مصداقيتها في ضوء هجمات إسرائيل ضد حلفائها –”حماس” و”حزب الله” -ولكن أيضًا الحوثيين في اليمن– يرقى إلى أن يكون برميل بارود جاهز للاشتعال. ومن المستحيل التنبؤ بعواقب الانفجار بدقة. لكن هذا القدر واضح على الأقل: لن نرى سوى المزيد من الموت والدمار والمعاناة. من السهل أن تبدأ الحروب، ولكن من الصعب إنهاؤها -وسرعان ما تخرج عن سيطرة أولئك الذين يبدأونها.
*راجان مينون Rajan Menon: الرئيس الفخري لكرسي آن وبرنارد سبيتزر في العلوم السياسية في كلية نيويورك/ جامعة مدينة نيويورك. وهو باحث أول في معهد سالتزمان لدراسات الحرب والسلام بجامعة كولومبيا، وزميل الأخلاقيات العالمية في مجلس كارنيغي للأخلاقيات في الشؤون الدولية. شغل سابقًا منصب أستاذ مونرو ج. راثبون ورئيس قسم العلاقات الدولية في جامعة ليهاي. وهو زميل في مؤسسة أميركا الجديدة في واشنطن العاصمة، وزميل أكاديمي ومستشار أول في مؤسسة كارنيغي في نيويورك، وزميل أقدم في مجلس العلاقات الخارجية، ومدير دراسات سياسة أوراسيا في المكتب الوطني للبحوث الآسيوية (NBR) في سياتل.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Has Netanyahu lost control of his war? Hezbollah is a far more formidable foe than Hamas
**تحديث: ردت إسرائيل على الهجوم الإيراني بهجوم غير كبير في الأسبوع الماضي ولم تشارك الولايات المتحدة في الهجوم.
المصدر: الغد الأردنية/(أن-هيرد)