قراءة في كتاب: الشاهد المشهود سيرة ومراجعات فكرية

أحمد العربي

وليد سيف كاتب دراما تلفزيونية وروائي وشاعر متعدد المواهب. قرأت له سابقا النار والعنقاء وكتبت عنها.

الشاهد المشهود – سيرة ومراجعات فكرية؛ كتاب بمثابة سيرة ذاتية  ل وليد سيف معجونة مع شروط الحياة التي عاشها في جانبها الخاص والعام وعلى مستوى الوعي الفكري والسياسي والتاريخي والديني عبر عقود مديدة هي حياة وليد سيف. وتطور فهم الحياة في تفاعل بين الخاص والعام حيث يرصد وليد سيف عقود من التاريخ العربي المعاصر منطلقا من اهم مفصل تاريخي عايشه العرب جميعا وهو قيام الكيان الصهيوني على جزء من فلسطين عام ١٩٤٨م في ذات عام ولادة وليد سيف في طولكرم البلدة التي لم يصلها الاحتلال ابّان النكبة.

لقد كانت طولكرم من الضفة الغربية الفلسطينية حيث أصبحت اداريا تابعة للأردن، درس فيها وليد سيف المرحلة الابتدائية، وبعد حرب ١٩٦٧م بين العرب والصهاينة كان لا بد أن ينتقل وليد سيف الى الاردن بعدما احتل الصهاينة طولكرم. وهناك وفي صحبة عمّه الذي احتضنه في كل مراحل حياته، تابع دراسته الثانوية وبعدها الجامعية في اللغة العربية.

كان وليد سيف متفوقا وموهوبا مما جعله محط اهتمام أساتذته. وكان الاول في التخرج  بفرعه مما جعله مؤهلا لأن يُبتعث لإكمال دراسة الماجستير والدكتوراه من قبل الجامعة. لكن معيقات وضعها بعض مدرسيه جعل ذلك صعبا حيث ألزموه في منافسة غير عادلة مع آخر لديه الماجستير ليتم اختيار احدهما للابتعاث الى انجلترا لاكمال دراسة الماجستير ثم الدكتوراه. وخاض وليد سيف المنافسة واستطاع التفوق على زميله وابتعث إلى إنجلترا في إحدى اختصاصات اللسانيات.

ذهب وليد سيف إلى إنجلترا وتابع اختصاصه هناك وتفوق واستطاع أن يدمج دراسة الماجستير والدكتوراة مع بعضهم بسبب تفوقه وعاد إلى الأردن يحمل شهادة الدكتوراه وهو في عمر ٢٧ سنة. وأصبح واحدا من هيئة التدريس في جامعته التي درس بها، صحبة أساتذته السابقين.

لم تستقر ظروف وليد سيف في الجامعة حيث تم فصل مجموعة من المدرسين لاسباب سياسية من الجامعة وكان وليد سيف أحدهم.

لقد كانت الثورة الفلسطينية قد بدأت بتواجدها وعملياتها منذ عام ١٩٦٥م بقيادة حركة فتح. وكان وليد سيف قريبا منها حيث التحق بفتح في سنوات الجامعة الاولى ومن ثم حصل الصراع بين النظام الأردني والفدائيين انتهى إلى حصول أيلول الأسود عام ١٩٧٠م. وتم إبعاد الثوار الفلسطينيين من الأردن. وبقي الحال السياسي في الأردن متوترا تجاه الكوادر الفلسطينية المنتمية لقضيتها ومنهم وليد سيف.

تم ابعاد وليد سيف عن الجامعة لسنوات حيث انتقل بين بعض الدول ومنها انجلترا ومن بعد ذلك تم إعادته مدرسا الى جامعته.

 في هذه الفترة كانت تتفتح مواهب وليد سيف فقد أصدر ثلاث دواوين من الشعر. كان قد سبقها حضوره الشعري في بعض الدوريات الأدبية وفي مهرجانات الشعرية. وذاع صيته وأصبح يشار له بصفته من شعراء الثورة الفلسطينية الرواد.

لقد كان وليد سيف نموذجا للإنسان الذي لا يأخذ موقفا من أي قضية مهما كانت دون دراسة وتثبت مع مراجعة كل المعلومات حولها:

التحق بحركة فتح منتميا لقضية فلسطين وتحريرها ولكن وفي الواقع العملي فاجأه واقع الممارسة الذي تحكمه دوافع ذاتية ومصلحية مع غياب النضج والفئوية والصراع بين الأجنحة داخل التنظيم الفلسطيني الواحد ثم التنظيمات بين بعضها. ثم اكتشف وقوعها في أمراض السلطة ومكاسبها والمنافسة والصراع فيها وعليها. وكان قد عايش انتماء الكثير من الشباب الفلسطيني للفكر الماركسي وكونه الفكر المنقذ والمؤسس للعمل المقاوم. واكتشف نفوره من الماركسية وكونها متناقضة مع الهوية الفلسطينية العربية الإسلامية. التي سرعان ما جعلته يخوض عميقا في المشروع الغربي عموما وكيف وُجِد وهيمن وأصبح صانعا للاستعمار وكانت فلسطين واحتلالها وخُلق الكيان الصهيوني فيها، لقد كانت إحدى ضحايا الرأسمالية الغربية.

لقد راجع المشروع الغربي في أحد أوجهه وهو الأخذ بالأسلوب العلمي في التعامل مع الطبيعة والحياة الإنسانية وتطبيق ذلك في الاقتصاد والسياسة والاجتماع وولادة الليبرالية كفكر خلق الرأسمالية التي أنتجت الاستعمار وامتد ليكون حاكم العالم.

لقد صنعت الليبرالية نظاما ديمقراطيا مقبول نسبيا داخل البلدان الرأسمالية الاوربية بداية.لكنه سيصبح استعماريا حيث امتد في العالم ووصل الى أمريكا التي ستصبح زعيمة الرأسمالية العالمية. وتصنع اوروبا وامريكا استعمارا متوحشا خارج بلدانها سواء بصورته العارية أو الضمنية.

 لقد أدرك وليد سيف أن الغرب الرأسمالي يعمل لمصالحه ولو عبر استعباد واستعمار الشعوب وفلسطين خير دليل على ذلك. ومع ذلك إن أردنا التقدم فلا بد أن نأخذ بالأسلوب العلمي للتقدم وليس بالتقليد الأعمى لنمط حياة الغرب.

لذلك سرعان ما ابتعد وليد سيف عن الفكر الماركسي وأخذ مسافة نقدية من الماركسية والليبرالية على حد سواء، وجد نفسه يقترب من ذاته العربية الإسلامية. حيث بدأ يدخل في مرحلة تديّن مدروس بناء على وعي وتعمق معرفي.

لقد التزم وليد سيف اسلاميا بشكل ذاتي وليس تحزبا. كان له رؤية خاصة للعلاقة مع الإسلام. الدين الذي اشبع توقه الروحي بحيث اقترب من بعض الطرق الصوفية. ولكنه لم يستطع تقبل شطحاتها في القدرات الخارقة والغيبيات وكذلك في التسليم الغير عقلاني  لإمام الطريقة. عاد من الصوفية بعمق العلاقة الوجدانية الروحية مع الخالق العظيم. وأخذ من الإسلام ثوابته العبادية والسلوكية وضوابط الأخلاق والمقاصد الشرعية وأن يكون الإنسان نموذجا للفضيلة والعمل الصالح.

هكذا تصالح وليد سيف مع ذاته وهويته وتوقه الروحاني وتابع الغوص عميقا في كل ما يتناوله في الحياة معرفة ودراسة وفهما.

لقد كان أمام وليد سيف وقت عندما اُبعد عن الجامعة لكي يفكر بالإنتاج الدرامي. سواء بما يتعلق بالتاريخ العربي الإسلامي او بالقضية الفلسطينية. حيث ألّف التغريبة الفلسطينية التي تحولت إلى عمل درامي تلفزيوني متميز ومهم. وكذلك مسلسل عمر بن الخطاب وصلاح الدين الأيوبي والثلاثية الأندلسية… حيث استمر ذلك لسنوات طويلة. كان قد عاد فيها وليد سيف للتدريس في الجامعة لسنوات ومن ثم قدم هو استقالته بداية الالفية الجديدة، وتفرغ للانتاج الدرامي الذي شكل حجر زاوية مهمة في الدراما التاريخية العربية جعلته رائدا مهما.

كما أخبرنا وليد سيف في بداية سيرته عن تداخل الذاتي مع العام فيها. فقد ذكر عمه الذي واكب نموه ودراسته حتى أصبح مدرسا جامعيا زميلا له، ذلك الانسان الاصيل الفاضل.

كما ذكر وليد سيف سيرة عائلته المؤلفة من اثنا عشر اخ واخت غير والده ووالدته حيث كانوا متكافلين متضامنين بعضهم بقي في طولكرم بعد احتلالها ١٩٦٧م وبعضهم كان خارجها. حتى تم تخرجهم جميعا في الجامعة، مع تقديم العون الى العائلة والأهل كل الوقت. إنهم نموذج فلسطيني نعتز به يؤكد أن اللجوء والنزوح لم يهزم الجذوة الإنسانية داخل اهلنا الفلسطينيين بل على العكس دفعهم إلى التفوق والعطاء وادى لنجاحهم حيث يكونون.

لقد كان وليد سيف نموذج للطالب الذي نجح بتفوق وحصل على الابتعاث بجدارة واستطاع أن يحصل على الماجستير و الدكتوراه بتفوق من الجامعات الانجليزية. لقد صحبته زوجته وعائلته في رحلة الابتعاث وسرعان ما عاد بعد سنوات الى انجلترا بصحبة زوجته في ابتعاث لها  لتكمل دراستها الدكتوراه ايضا وتحصل عليها بتفوق.

لقد تابع حياته في انجلترا من موقع الباحث الناقد القارئ المدقق والمتفهم لإنجلترا والغرب عموما، وعاد من هناك بداية وقد امتلأت نفسه اعجابا بتطورها العلمي والأكاديمي. ومع ذلك بقي على مسافة مع نموذجها الليبرالي المنفتح وبقي منتميا لهويته الاسلامية دينيا وسلوكيا.

كما أصبح نجاح وليد سيف سببا لدعوته إلى أكثر من دولة ليتابع دراساته العلمية. كان اهمها دعوته لأمريكا لمدة سنة. جعلته يغوص دراسة وتعمق لأمريكا الوليدة في عالم معمّر لآلاف السنين. أمريكا ابنة مئات السنين التي ولدت كمجتمعات امتداد للأم انجلترا التي رحّلت بعض من مواطنيها إلى هناك. حيث تم افناء للشعب الامريكي الاصلي. وخُلقت أمريكا وولاياتها التي استعانت بجلب الزنوج الافارقة لبناء حياتها الجديدة وكانت متوحشة معهم ايضا. واظهر ان نشوء أمريكا متحررة من التاريخ. ومعايشة للتوحش بعلاقتها مع الآخر جعلها نموذج للرأسمالية المسلحة العدوانية التي تحكم العالم منذ أكثر من قرن تقريبا.

تحدث وليد سيف عن الشعر وكونه رسالة الأعماق النفسية والوجدانية في الانسان. وان عصره قد افل. وتحدث عن الرواية والقصة وأنها معاصرة عندنا نحن العرب ولكن أخذت تبني وجودها المتميز والمتألق. وتوقف عند الدراما وأنها تعيد الى الملايين إنتاج ذاتهم المغمورة والمطمورة والمشوهة احيانا. ليعيشوا في حقيقتهم. ويكونوا جزء من العصر.

يحدثنا وليد سيف عن عائلته الصغيرة زوجته التي كانت معه في رحلة عطائه كتف بكتف في حياته كلها. والتي اثبتت جدارتها وحصلت على الدكتوراه أيضا في اختصاص طبي. وتحدث عن ابنه الأربعيني المتفوق الذي صنع مستقبله الافضل وعن ابنتيه وانهن أتممن دراستهن وبدأوا رحلة بناء حياتهم بنجاح وكفاءة…

بالمختصر حياة وليد سيف التي غصنا فيها عبر كتابه الشاهد المشهود المؤلف من ٥١١ ص بالعام والخاص والوعي والعصر والتاريخ والدين والنفس وكل مناحي الحياة تقريبا. جعلنا أمام نموذج نعتز به ونتمنى ان نكون أقرب لما عاشه من جهد ونتاج وعطاء جعله من الخالدين في الدنيا ويواجهون الله بوجه ابيض…

كما اود ان اوضح ان اي قراءة لكتاب الشاهد المشهود لا تغني عن قراءته. فهو الكتاب الذي تكون كقارئ بعد قراءته غيرك قبل قراءته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى