جدل العلاقة بين الحريات الأكاديمية والنسق السياسي في العالم العربي (*) (1 – 3)

د- عبدالله تركماني

يدفعني إلى إعادة نشر هذه المحاضرة التي أعددتها منذ 16 عاماً، مع إجراء بعض التعديلات لربط الماضي المنظور بحاضرنا العربي البائس.

لا يمكن الحديث عن الحريات الأكاديمية بمعزل عن الحريات العامة في أي مجتمع، وبالتالي بمعزل عن مجموعة الأنساق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. وفي مقاربتنا هذه سنتناول الحريات الأكاديمية من زاوية علاقتها بالنسق السياسي العربي. حيث يعاني البحث العلمي من عقبات رئيسية عدة، يأتي في مقدمتها: ضعف الدعم المالي المخصص للبحث العلمي، وضعف، إذا لم نقل غياب، الحريات الأكاديمية. فبالنسبة للميزانية المخصصة للبحث العلمي في العالم العربي فإنها لا تكاد تذكر، إذ لا تتجاوز ما نسبته 0.3 % من الناتج القومي الإجمالي. أما عن موقع البحث العلمي العربي في الخريطة العالمية فإنه لا يمثل سوى 1.7 % من الإنتاج العلمي العالمي، وهذا يعني أنّ مدخلات المعرفة العربية على المستوى الدولي محدودة جداً.

بينما علّقت النخبة الحاكمة في إسرائيل، منذ عهد مؤسسها دافيد بن غوريون، أهمية كبرى على البحث العلمي. ومن أبرز التقاليد التي ترسخت في علاقة إسرائيل مع العلوم والتكنولوجيا: تعيين عدد من العلماء على رأس المؤسسات الحكومية المعنية بالمجالات التكنولوجية حصرت مهمتهم في تطوير البحوث المتعلقة بهذه المجالات، وإنشاء هيئة قومية للبحوث والتطوير مهمتها رسم السياسة العلمية الشاملة، إضافة إلى تطوير مجالات بحثية جديدة، وإقامة صناديق مالية لتشجيع البحث والتطوير وفقا لأهداف الأمن القومي الإسرائيلي وغيرها.

في المقابل، تعرضت مؤسسات التعليم العالي في البلدان العربية إلى التوظيف السياسي واستغلت كفضاء للتأطير الأيديولوجي. فعوض أن يكون الحقل التعليمي محايداً وموضوعياً ويتعاطى مع المعرفة دون تسييس أو أدلجة، احتكرت النخب السياسية العربية فضائيات العلم، لذلك فإنّ جامعاتنا لم تستطع النمو والتطور رغم كفاءاتها العلمية، إلى درجة أنّ هذا الواقع قد أثّر سلباً على سلوك ومواقف النخب العلمية. فالشائع اليوم بين الجامعيين العرب أنّ منصب عميد الكلية هو منصب سياسي، وكلما فهم الجامعي اللعبة وحصّن نفسه بالانتماء إلى الحزب الحاكم في بلده، كلما كان أقرب إلى الترقيات وإلى حرية التصرف والاستحواذ على فرص البعثات الدولية.

وهكذا، فإنّ أهم معوّقات وتحديات البحث العلمي في العالم العربي هي:

1- غياب سياسة علمية واضحة ومتوازنة ومتسقة يمكن أن تنظّم عملية البحث العلمي، وتوجّه الموارد، وتستثمر الطاقات والقدرات المتاحة والمتوافرة حسب سلم أولويات التحديات.

2- ضحالة الموارد ونقص الإمكانيات المخصصة للقيام بالبحوث العلمية.

3- تعثّر استراتيجيات التحديث العربية، وعدم توازنها وعدم فاعليتها واتساقها.

4- انعدام الحريات الأكاديمية والفكرية العامة في المجتمعات العربية، وعدم توفير المناخ السياسي الملائم للإبداع، بإطلاق حريات الأفراد وتوفير إمكانيات المشاركة الفعلية أمامهم، سواء من النخب العلمية أو من مختلف قطاعات الشعب الأخرى.

5- ضعف وتفكك المجتمع العلمي العربي، وضعف مراكز المعلومات وخدمات التوثيق والمكتبات، وعدم توافر المناخ الملائم للعمل البحثي، وانتشار البيروقراطية، وقلة الحوافز المادية، والتبعية العلمية والتقنية للخارج، وضعف البنيات الأساسية للحراك الاجتماعي والاقتصادي العربي الذي يفترض أن يشكل القاعدة الصلبة لقيام البحوث العلمية.

وبالنظر إلى ذلك فإننا نؤكد أنّ هناك هوة واسعة بين العمل الجدي الحقيقي المنتج والمطلوب، وبين ما هو منتظر من الإمكانيات والمواهب البشرية العاملة في ميدان البحث والتطوير من العلماء والأكاديميين الباحثين في المؤسسات العلمية العربية.

وفي الواقع، تمثل أزمة البحث العلمي مجالاً مهماً للعديد من الإشكالات الرئيسية، عن موقعه في خريطة اهتمامات السلطة والمسؤولين والمشرفين على التعليم العالي والبحث العلمي: علاقة السلطة في العالم العربي بالبحث العلمي وعلاقة البحث العلمي بصناعة القرار، وعلاقة الدول العربية بالأدمغة المهاجرة والكفاءات العلمية العربية الموجودة في مختلف أنحاء العالم، وماذا فعلت الحكومات العربية لاستقطاب هذه الكفاءات أو على الأقل الاستفادة منها؟ ولماذا تنجح وتبدع الكفاءات العربية في الخارج وتهمّش ولا تصل إلى مستوى يذكر في بلادها، وبالعكس تصل إلى أعلى المستويات في أوروبا وأميركا؟

إنّ أغلب صنّاع القرار في العالم العربي لا يعتمدون على البحث العلمي ولا الدراسات ولا البيانات والمعطيات العلمية لاتخاذ قراراتهم، وخير دليل على ذلك انعدام مراكز سبر الآراء، وهكذا تصبح العلاقة الارتباطية بين البحث العلمي والرشادة السياسية منعدمة تماماً.

كما أنّ غياب الديمقراطية وروح الحوار الأكاديمي الخلاق في جامعاتنا هما من أهم أسباب تخلّف التعليم الجامعي العالي، وهذا الغياب بدوره يولّد نوعاً من الاستبداد الذي تمارسه إدارة الجامعة ضد أساتذتها وطلابها في آن، وداخل هذا الجو يظل الأستاذ الجامعي قلقاً ومتوتراً وفاقداً لحريته، وعاجزاً عن الإسهام في التغيير والتطوير. ومما يحوّل بعض جامعاتنا وكلياتنا في العالم العربي إلى قلاع من الاستبداد والظلام هو عدم الانتخابات الديمقراطية لرؤساء الجامعات وعمداء الكليات ورؤساء الأقسام، إذ يتربع هؤلاء كراسي المناصب الإدارية بقرارات عليا، تصوغها السلطة السياسية أحياناً، أو الجهات الأمنية التابعة لسلطة الدولة نفسها أحياناً أخرى. وهذه التعيينات، الخارجة عن إطار الجامعات، لا تدفع إلى هرم المناصب الإدارية الجامعية الأكفاء من الأساتذة المتميّزين، عقلاً وحكمةً ومعرفةً وبحثاً جاداً، بل قد تدفع بعض الأشخاص غير الموهوبين وغير الجديرين إلى مثل هذه المناصب.

والحال إنّ العالم العربي مليء بالكفاءات الفردية والمثقفة، ولكن ليس هناك وسط ثقافي ملائم للإبداع. ولا نعلم كيف ستكون العلاقة بين المثقف والسياسي، ما دامت هذه العلاقة جامعة لمفارقة كبيرة في أقطارنا.

لقد نسي القادة، الذين تسلموا السلطة في الدولة الوطنية الفتية، الوعود التي قطعوها على أنفسهم في الماضي، وباتوا يتصرفون كما لو أنهم وحدهم المسؤولون عن مصير بلدانهم. وباسم ” الحفاظ على سلامة الوطن ” شنوا حملات قمع واسعة، كان المثقفون والمفكرون من ضحاياها البارزين. وفي ظرف سنوات قليلة تحولت الجامعات والمؤسسات التربوية والثقافية والعلمية إلى مراكز للدعاية لصالح الأنظمة الحاكمـة ولـ ” الحزب الأوحد ” و ” القائد الأوحد “. وخلال العقود الخمسة الماضية ازدادت هوة القطيعة بين أهل السلطة وأهل القلم عمقاً واتساعاً، والسبب الأساسي في ذلك هو أنّ السلطات، في أغلب أقطار العالم العربي، مصرة على أنّ القوة هي وحدها الضامنة لبقائها ولتوطيد نفوذها. أما أصحاب القلم، فإما أن يكونوا ” خدماً فقط ” وإلا فإنّ مصيرهم السجن أو النفي.

وفي هذا المجال، يمكن الإشارة إلى أنّ الأزمة العربية بمجملها هي أزمة قيادة تفتقر، في النسق السياسي، إلى القدرة على استيعاب المتغيّرات في البيئة الدولية، خاصة قصور النظرة إلى الأساليب الديمقراطية في قيادة المجتمع والدولة. وفي النسق المعرفي، عدم التواصل مع ما أحدثته ثورة المعلومات في العالم. وطالما أنّ الأزمة، في إطارها العام، هي أزمة قيادة، فإنها تنسحب على الإطار المؤسسي الخاص بمجمل هياكل وأنشطة الدولة الأخرى ومنها الهياكل والأنشطة العلمية، مما يجعلها تسير بخط لا يوازي أو يواكب حركة التطور العلمي في العالم.

(*) – في الأصل ورقة قُدمت في المؤتمر الخامس والعشرين لمنتدى الفكر المعاصر حول ” دور الجامعات والباحثين بين حرية الإبداع وممارسات الرقابة ” في الفترة من 19 إلى 21 يونيو/حزيران 2008، بدعوة من ” مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات ” و ” مؤسسة كونراد أديناور بتونس “.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى