من المباحث العلمية الأساسية التى لم تأخذ مكانها من الدراسات السوسيو- قانونية، والسوسيو-سياسية دراسة القانون والتنمية، والدور الذى تنهض به الأنظمة القانونية فى سياسات التنمية، وخاصة فى ظل الدولة ما بعد الكولونيالية فى العالم العربى. مرجع ذلك عديد الأسباب منها :1 – هيمنة التقاليد شبه الليبرالية على تكوين الجماعات القانونية العربية، التى ارتكز تكوينها المعرفى على التقاليد النظرية والتطبيقية اللاتينية – الفرنسية والبلجيكية والإيطالية-، والأنجلوساكسونية ، التي ركزت على المقاربات المنهجية الشكلانية، والنزعة التجريدية، والشرح على المتون في درس القانون وتطبيقه في المنازعات القضائية ، وخاصة لدينا سواء فى الدرس القانونى الأكاديمى فى كليات الحقوق، أو فى وضع القوانين من قبل المجالس النيابية، وأيضا فى تطبيقات الجماعات القضائية فى الغالب الأعم.
2- لا مبالاة الطبقة السياسية ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربى، بدور القانون فى دعم سياسات التنمية، وأيضا فى إدراك القانون ووظائفه الذى ارتكز على الطابع الأدائى، وتكريس مصالح الطبقة السياسية الحاكمة، وقاعدتها الاجتماعية. ومن ثم كُرست الوظيفة الآداتية للقانون كأحد أدواتها فى الهيمنة السياسية، والسيطرة على المجتمع ما بعد الاستعمار.
3- نظرة الطبقات السياسية العربية الحاكمة للقانون، باعتباره أحد مظاهر القوة والهيمنة من الطبقات السياسية العربية الحاكمة – من آباء الاستقلال وخلفاءهم – على القوى الاجتماعية الأخرى، وأداة أساسية فى تكريس مصالحها، ومعها قاعدتها الاجتماعية فى ظل الصراعات على المصالح الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية والثقافية واللغوية لاسيما في المنطقة المغاربية – الجزائر والمغرب ، والسودان في منطقة حوض النيل واريتريا والصومال – ، سواء أكانت القوة الاجتماعية تمثل فى القبيلة، أو مجموعة قبائل غالبة على الأخرى، أو عشيرة، أو عائلة ممتدة وصلت بالقوة إلى سدة الحكم. بعض البلدان العربية التى استطاعت أن تستكمل فى تطورها الاجتماعى، والاقتصادى، والسياسى المناهض للاستعمار الغربى، تبلورت لديها بعض عمليات تكوين الأمة الاقتصادية والاجتماعية ، أو غالب مقوماتها الرمزية والثقافية، اختلفت أوضاع القانون لدي سلطاتها السياسية نسبيا في نظرتها للقانون، بوصفه أداة، وفى ذات الوقت كقيد نسبي على السلطات العامة فى أداءها لوظائفها، فى ظل الفصل والتمايز الوظيفى بين السلطات الثلاث، ورقابتها المتبادلة على بعضها بعضا. لا شك أن هذه الدول -مصر، ودولة المخزن فى المغرب – استطاعتا إرساء بعض التقاليد السلطوية فى سياسات التشريع، على نحو ساهم، فى إنتاج تراث قانونى وسياسى اياً كان الرأي حوله ، قبل الاستقلال عن الاستعمار، واثناء حركاتها الوطنية، وبعد استكمال استقلالها النسبى.
بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربى، وفى ظل حركات التحرر الوطنى في العالم الثالث، برزت مشكلات علاقة القانون، والتنمية والحريات العامة والشخصية فى غالب البلدانالعربية، وذلك على النحو التالى:
1- هيمنت ظلال التجارب التنموية فى ظل الفكر اليسارى، والماركسى فى الدول الاشتراكية، ومرجعياتها الماركسية اللينينية، على فضاءات الفكر السياسى لبعض اباء الاستقلال منذ عقدى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى: إلا أن غالب الفكر والإدراك السياسى لبعض الدول العربية تمثل فى تبنى نموذج رأسمالية الدولة الوطنية الذى يتمثل فى سيطرة الدولة والنظام السياسى -لاسيما السلطة الحاكمة الشمولية والتسلطية- على الموارد الاقتصادية، والمشروعات الصناعية والتجارية، من خلال سياسة التأميم، وتحويلها إلى قطاع عام، وإنشاء مصانع، وشركات، لقطاع الدولة، وهيئات عامة ، وتتمثل سياسات التنمية فى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وذلك لتحقيق بعض النمو الاقتصادى الذى يرمى إلى تحقيق بعض من العدل الاجتماعى من خلال تـأمين السلع والخدمات الأساسية للجموع الشعبية ، والخدمات الصحية، وتوفير بعض فرص العمل فى أجهزة الدولة، والقطاع العام، وفى مجال الثقافة، تقديم بعض الخدمات الثقافية الموجهة، وسياسة تعليمية، تهدف إلى مجانية التعليم الأساسى، والجامعى.
2- فى مقابل السياسات الاجتماعية والثقافية والتعليمية والاقتصادية العربية الموجهة سلطويا ، تم تأميم الصراع الاجتماعى، والطبقى، والتحالفات الاجتماعية، فى ظل إطار تنظيم سياسى تعبوى واحد، أو تحالف أحزاب فى إطار حزب مسيطر. من ناحية أخرى مصادرة الحريات العامة، وضبط الحريات الشخصية بعديد من القيود القانونية، والأمنية كما حدث في سوريا والعراق وليبيا والسودان ومصر والجزائر وتونس والمغرب .
3- سياسات رأسمالية الدولة فى بعض الدول العربية ما بعد الاستقلال، أدت إلى موت السياسة كسمت عام فى غالبية الدول العربية على نحو أدى إلى موت المبادرات الشخصية والجماعية، بفرض القيود على القطاع الأهلى -وما يطلق عليه مجازا بالتجمع المدنى الذى لم يتشكل فى إطار النظم الاستبدادية، والتسلطية-، على نحو أدى إلى هيمنة السلطة السياسية الحاكمة، وأداتها الحزبية على حركة الجموع الشعبية الغفيرة ، وايضاً علي تشكيل البرلمانات من الزبائن والمحاسيب وذوي المكانة في الجماعات التقليدية كالقبائل والعشائر والأقليات الدينية والمذهبية والعرقية .
4- التصورات الشمولية السلطوية السياسية للتنمية لقادة ما بعد الاستقلال، وخلفاءهم، أدت الى هيمنة المفهوم الأداتى للقانون، ودوره الوظيفى فى ضبط السلوك الجتماعى من خلال تمدد القوانين ذات النزعة التجريمية والعقابية التي تشمل كافة مجالات الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والأمنية، والثقافية. هذا المفهوم الأداتى للقوانين، يستصحب معه الوظائف الأمنية لها ومفاهيم الردع العام والخاص عبر الجزاءات.
5- أدى التصور الأداتى للقوانين، إلى تحويل الدساتير الى وثائق شكلية، والى تفريغ الحقوق والحريات العامة، والشخصية من معناها، ومحتواها ومضامنيها كحقوق دستورية توجه المشرعين إلى احترامها فى غالبُ السياسات التشريعية العربية، ألا أن السياسات التشريعية قامت بفرض القيود القانونية –الأمنية- على هذه النصوص الدستورية، وخاصة فى ظل تمدد واسع للسلطات التنفيذية وتمركزها حول القيادة السياسية ومواقع القوة حولها ، وفرض ضوابط على استقلال السلطة القضائية
6- تحول البرلمانات الى أداة فى قبضة السلطة التنفيذية، والزعامات السياسية الحاكمة التى تمركزت فيها القوة السياسية والأمنية والاستخباراتية . ترتب على الظواهر، والسمات البنيوية الشمولية والتسلطية للأنظمة السياسية العربية وسلطاتها الحاكمة، إلى تحول القوانين إلى أدوات سلطوية لتحقيق مصالح القوة الاجتماعية المسيطرة، وليس أداة للتوازن بين مصالح القوى الاجتماعية المختلفة، وتحقيق الحقوق الدستورية العامة والشخصية وضماناتها القانونية للحريات.
7- أدت الوظائف الأداتية للقوانين إلى مصادرة الحوافز الشخصية/ “الفردية”، ومبادراتها، وآراءها فى مجال حريات التعبير ، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، التى خضعت لقوانين تكرس التعبوية السياسية، والاقتصادية، ومن ثم نفى الإرادة الشخصية/ “الفردية” “للمواطنين” لصالح التعبئة السياسية والاجتماعية السلطوية العامة.
8- الدور التعبوى للقوانين المشمول بالجزءات والعقوبات شكل محركا للأنفجارات التشريعية واللائحية، والقرارات الإدارية، على نحو أدى إلى حالة من الاختلال والأضطراب وبعض التناقضات في البناء التشريعي ، ومن ثم لم تحقق القوانين التوازنات الاجتماعية بين المصالح المتصارعة في الواقع الموضوعي، أو ضمان الحريات العامة، والشخصية، فى إطار السياسات التنموية التى غلب عليها الطابع الشمولي والتسلطى على نحو أدى إلى افتقاد سياسات التنمية إلى أحد أبرز محفزاتها، ومحركاتها، وتطويرها متمثلة في القوانين الفعالة في التغير الاجتماعي في القيم والسلوك الفردي والجماعي ” للمواطنين ” دون حقوق المواطنة بعد عمليات تكوين الدولة الوطنية بعد الاستعمار.
فى أعقاب التحول الى الرأسمالية وإعادة الهيكلة ثم سياسة النيوليبرالية، تحولت التنمية إلي محضُ سياسات اقتصادية ترمي إلي تصفية وبيع القطاع العام ، ودعم القطاع الخاص، لكن فى ظل هيمنة بعض أجهزة الدولة، وازدياد معدلات الفساد فى الوظائف العامة، وفقدان القانون الى وظيفة الردع، لصالح الفساد الاجتماعى لدى قطاعات عديدة فى المجتمع، ومن ثم أدى ذلك الى انفصال بين غالب القوانين، وبين السياسة الرأسمالية النيوليبرالية وعلاقاتها بقوانين الاستثمار والحريات العامة السياسية والاجتماعية لصالح هيمنة السلطة الحاكمة ، وفرض قيود إدارية، وبيروقراطية على سياسات الاستثمار الاجنبى، والمحلى في غالبُ الدول العربية . لا شك أن ازدياد معدلات الفقر وعسر الحياة فى الدول العربية المعسورة، أدى إلى تمدد ثقافة الفوضى خارج نطاق قانون الدولة، لصالح قانون المكانة والثروة والسلطة والرشي والتحايل علي القوانين من قبل المخاطبين بأحكامها إلخ.
التكامل بين القانون والتنمية، يحتاج إلى إصلاح سياسات التشريع العربية، نحو ضمان الحريات العامة والشخصية كمحركات قانونية وفردية من اجل تحقيق التنمية فى إطار النيوليبرالية الاقتصادية ودعم التطور في الانتقال إلي الديمقراطية التمثيلية .
المصدر: الأهرام