المواطن والوعي القانونى فى المجتمعات الغربية

نبيل عبد الفتاح

القوانين، كمنظومات من القواعد الاجتماعية تضبط السلوك الاجتماعى، وتنظمه فى كل مجال من مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية، والاقتصادية، والإدارية، وتضع من الأنساق الإجرائية، فى المجالات الجنائية، والدستورية، والسياسية..الخ وتفرض الجزاءات علي من يخالفها ، وتضع ضوابط على سلوكيات أجهزة الدولة القضائية والشرطية، والاستخباراتية، والإدارية فى تطبيقها للقوانين علي المخاطبين بأحكامه، لأن الإجراء هو توأم الحريات وحقوق المواطنين وحمايتهم وضبط سلوك الموظفين العموميين . فى ذات المستوى على المخاطبين بأحكام القوانين الالتزام باحترام هذه القوانين والالتزامات والواجبات المفروضة عليهم. وهو ما يمثل أحد المبادئ الأساسية لدولة القانون والحق فى النظم الدستورية، والقانونية فى الدول الديمقراطية التمثيلية الحديثة والمعاصرة، فى جميع أنحاء العالم، بقطع النظر عن مدى احترام هذا المبدأ وغيره، أو إنتهاكه، وخاصة فى الدول الاستبدادية، أو التسلطية في جنوب العالم!

هذا المبدأ الرئيس من المبادئ القانونية، والقضائية، هو ما يشكل احترام قانون الدولة من أجهزتها، ومن المواطنين كجزء من الثقافة السياسية، والقانونية السائدة فى الدول والمجتمعات الأكثر تقدما فى عالمنا على نحو ما يبدو فى السلوك الاجتماعى للمواطنين، على المستوى المجتمعى، أو المواطن/ الفرد. أحد ابرز الملاحظات الأساسية حول علامات التقدم والتطور الفائق للدول الأكثر تطوراً فى عالمنا سياسيا، واجتماعيا، وثقافيا، وعلميا تتمثل في احترام الفرد/ المواطن، والطبقات الاجتماعية المختلفة للقوانين فى تفاصيل الحياة اليومية، وبين بعضهم بعضا، وفى علاقتهم بالدولة، وأجهزتها المختلفة، والتطبيق الصارم لها فى سلوك كافة أطراف العلاقات القانونية، والاستثناءات من الخارجين على القوانين، يخضعون لحكم القانون، وأجهزته الشرطية والسلطة القضائية، فى تطبيقهم على منتهكيه.

احترام المواطن/ الفرد للقوانين، يبدو علامة على تقدم الثقافات السياسية، فى الدولة القومية، وتطوراتها، فى مراحل الحداثة السياسية، والاجتماعية، والثقافية، والقانونية،  والعلمية والتكنولوجية، وحتى فى ظل التحولات إلى ما بعد الحداثة، وما بعد بعدها، وفى مراحل التحول إلى عالم الذكاء الاصطناعى، والإناسة الروبوتية.

ثمة سؤال يطرح دائما ما سر احترام المواطن الفرد فى الدول فائقة التطور للقانون فى كل هذه المراحل من مراحل التطور السياسى والاجتماعى والتكنولوجى والعلمى؟ والمقارنات بوضعية علاقة “المواطنين” بالقانون فى الدول ومجتمعات جنوب العالم، لاسيما الدول الفقيرة المتخلفة، والمتوسطة؟

لا شك أن احترام المواطن فى الدول الغربية، واليابان مرجعه التشكل والتكوين التاريخي للفرد كأرادة ومشيئة وكفاعل اجتماعي والفردانية فى إطار الثقافة القومية داخل المجتمعات الرأسمالية الليبرالية. أدت الفردانية -والمذهب الفردى- وعلاقات الإنتاج الرأسمالية، والتنافسية إلى تشكل الفرد، والثقافة الفردية، وخاصة فى أوروبا، وأمريكا الشمالية، وهو ما أثر على نمو وتطوير منظومة الحقوق والحريات الفردية، والعامة، ومعها تبلورت حقوق المواطنة وأجيالها المتعددة، والتزاماتها إزاء الأفراد الآخرين، وأجهزة الدولة، ومنها تجاه المواطنين .

قامت ولا تزال أنظمة التنشئة الاجتماعية والسياسية بوظيفة هامة، فى تعليم المواطن منذ تكوينه الاجتماعى، والتعليمى والسياسى تتمثل في احترام القوانين، والنظام العام، والآداب العامة على الرغم من التغيرات فى هذين المفهومين، وتقلص مفهوم الآداب العامة، فى ظل التنامى المستمر لحقوق المواطن/ الفرد، على خلاف الغالبية من دول جنوب العالم الفقيرة، ومتوسطة التطور.

من ثم تلعب رياض الأطفال، والمدرسة، والجامعة وظائف أساسية فى التربية، والتكوين على احترام القانون إلى جانب الحقوق والحريات الفردية والعامة. يتعرف المواطن/ الفرد فى الدول الغربية واليابان على القانون من خلال تنظيم المجالين العام والخاص، والتطبيق الصارم على المخالفين، فور وقوع أية انتهاكات لقواعده فى تفاصيل الحياة اليومية، فى الشارع، والعمل، وعلاقات الجيرة، وإزاء أية تجاوزات للحقوق الفردية للآخرين، أو الحريات العامة، أو تجاه النظام العام.

يتعرف المواطن/ الفرد على القوانين، بل وبعض مشروعاتها المقدمة للبرلمان، من خلال الجدل العام، فى الصحافة التقليدية والاستقصائية، ووسائل التواصل الاجتماعى، والحياة الرقمية، وأيضا عبر سجالات الأحزاب السياسية فى الحكم أو المعارضة، وخاصة فى مدى احترام مشروعات التشريعات المقدمة للبرلمانات للحقوق الدستورية للمواطنين، أو محاولة تقييدها.

تمثل بعض الجرائم التى يرتكبها بعض المواطنين فرادى أو بعض العُصب، والجماعات الإجرامية، مادة للمتابعات والتحقيقات الصحفية، والتلفازية، وللمنشورات والتغريدات، والفيديوهات الطلقة على الحياة الرقمية، على نحو يكشف للفرد/ المواطن، بعض أنماط السلوك الإجرامى، من بعض الجانحين أفراداً أم عُصب إجرامية. أدت الثورة الرقمية إلى تعرف الفرد الرقمى والجموع الرقمية، على القانون، وأنماط الجريمة من خلال بعض السلوكيات الرقمية التى تتسم فى بعض الأحيان بالغرائبية، فى موضوع الجريمة، أو سلوك أطرافها من الجناة، أو المجنى عليه/ عليهم. الغرائبية فى السلوك الإجرامى، يؤدى إلى تناسل السرديات المختلفة حول المشروع الإجرامى وأطرافه، والفعل الأجرامى ذاته. من ثم تمثل هذه الأنماط الغرائبية في السلوك الإجرامي موضوعًا، للسرديات الرقمية حولها، سواء فى خطاب المنشورات، أو التغريدات، أو الفيديوهات الطلقة، ومعه انحيازات الفاعلين الرقميين للمجنى عليه، أو الجناة، خاصة فى الجرائم داخل الأسرة، أو علاقات الرفقة، أو الصداقة، أو الزمالة في العمل او بالصدفة أو الناتجه عن بعض الأمراض النفسية . تزايدت المعرفة بالقوانين مع بعض الجرائم العنصرية، أو الإرهابية فى أوروبا – فرنسا، وبلجيكا وألمانيا، وبريطانيا ، ودول شمال أوروبا ، والولايات المتحدة.. -إلخ- حيث تسيطر سرديات الأجهزة الأمنية، والاستخباراتية، حول عمليات الدهس، والطعن لبعض المواطنين الأبرياء من بعض الذئاب المنفردة كما حدث في مدينة نيس الفرنسية عام 2016 وأسفرت عن مقتل 86 شخصاً من قبل شخص من أصول تونسية.

تبدو المعرفة بالقوانين أيضا من خلال متابعة وسائل الإعلام التقليدى، والاستقصائى، وعلى وسائل التواصل الاجتماعى التى تتابع تطورات القضايا الإجرامية أمام جهات الضبط الشرطية والاستخباراتية، وأمام القضاء، ومرافعات الدفاع فى هذه القضايا الجنائية والإرهابية.

ساهم التطور التكنولوجى، وانتشار آلات –كاميرات- التصوير فى الشوارع، والأسواق، والمنازل، ومحلات التسوق، ومكاتب الخدمات العامة، وفى مواقع العمل، فى الكشف عن الجرائم  والمخالفات، وسهولة عملية التعرف علي الجناة والمخالفين للقانون، والأهم قيام بعض الأفراد/ المواطنين بالتوثيق المرئى لبعض الجرائم والمخالفات من خلال أجهزة الهاتف المحمول والآت التصوير الشخصية، وتقديمها للأجهزة الأمنية، أو بثها على مواقع التواصل الاجتماعى، أو رصد انتهاك بعض رجال الأمن والإدارة للقانون، أو تجاوزاتهم فى عمليات القبض على بعض الأشخاص، والتى قد تصل إلى قتل لأحدهم، لأسباب عنصرية، على مثال قتل مواطن أمريكى أسود، من قبل رجل شرطة أبيض علي ماتم يوم 25  مايو عام 2020  في مدينة مينا بولس بولاية مينسوتا حيث قام ضابط الشرطة ديريك تشوفين بالضغط علي عنق جورج فلويد     George Floyd لمنعه من الحركة اثناء الاعتقال لمدة تسع دقائق وأدت لوفاته . أو التوثيق المرئى، لقيام بعض الأفراد بالسرقة من بعض المحال العامة، سواء على نحو فردى، أو جماعى في حالة فوضي مؤقته . مثل هذه التوثيقات المرئية عبر الهاتف المحمول، أو كاميرات المراقبة، تمثل مادة لمعرفة إنتهاك قواعد القانون الجنائى، من قبل بعض المواطنين، أو العُصب الإجرامية، أو رجال الضبط القضائى.

بعض المعرفة القانونية للمواطنين، مصدرها التربية على احترام القانون، وبعضها يتكون من خلال وقائع إنتهاكه، وأشكال السلوك الاجرامى المختلفة. من ثم تبدو بعض الثقافة القانونية الغربية واليابانية –وفق النظام الانجلو أمريكى، واللاتينى، والألمانى..إلخ- جزء رئيس من تشكل الوعى القانونى، واحترام قانون الدولة، وعلامة على التقدم الفائق للأمم الأكثر تطورًا، وعلى تأثير القانون علي الهندسة الاجتماعية والسياسية، وتحفيز المواطنين على العمل، والإبداع والتمتع بالحريات الفردية، والعامة، والأهم حالة الأمن فى هذه المجتمعات والدول فائقة التطور التى تمثلُ الأمن الفردى والمجتمعى النسبى، وعلامة على تنظيم الصراعات والمنافسات الاجتماعية والفردية التى تؤدى إلى المزيد من التطور العلمى والتكنولوجى، والفكرى، والحرياتى في إطر تنافسية منظمة .

المصدر: الأهرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى